السّيرة النّبويّة.. عبر ودروس

أ.د/  محمد بن قاسم ناصر بوحجام – القرارة – الجزائر

 

حياة الرّسول  كلّها دروس وعبر، ومدرسة للتّعلّم والتّكوّن، ومصدر لاستلهام طرق التّربية والإعداد والبناء، هي شاملة لمختلف جوانب الحياة؛ لأنّ سيرة الرّسول  هي جماع كلّ ميادينها، فقد شارك وقدّم فيها ما ينفع المتعلّم منها ما يفيده في تسيير حياته بقواعد وضوابط محكمة.... فسيّدنا محمد   كان المعلّم والمربّي والدّاعية، والإمام والحاكم والقائد، كان الزّوج والأب والصّديق والتّاجر و...؛ لذا فإنّ في سيرته كثيرًا من القواعد التي تضبط المسيرة، وتنظّم شؤون الحياة، التي هي مأخوذة ومصنوعة من الوحي السّماوي، ومن تجربته الخاصّة.
في هذه المقالة نُذَكِّر ببعض العبر والدّروس في بعض الأحداث التي حصلت في آخر حياته .
أولا - إنّ مسؤولية الدّعوة إلى الله، والتّعريف بالإسلام، وتعليم مبادئه وأحكامه... ليست سهلة هيّنة.. وعلى من يقوم بها أن يتحلّى بالحكمة والصّبر. هي – أيضًا – أمانة في أعناق المسلمين في كلّ عصرٍ ومِصْرٍ وزمان ومكان، كما سار بها رسولنا  الكريم.

ثانيًا - على الدّاعية والموجّه والمرشد أن يحسنوا مخاطبة النّاس ودعوة الخَلق، فيغلّبوا جانب التّيسير والتّبشير على جانب التّعسير والتّضيق والتّهديد والإنذار،  والتّرغيب على التّرهيب... فقد أوصى الرّسول معاذ بن جبل (مبعوثه إلى أحد أطراف اليمن ليعلّم النّاس أمور دينهم) قائلا:" إنّك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فإذا جئتَهم فادْعُهُمْ إلى أن يشهدوا أن لا إِلَهَ إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسولُ الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات، في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب".
وهذه الوصيّة تبيّن أنّ الإسلام يدعو الدّعاة والمسلمين إلى التحلِّي بالأخلاق الحسنة في التّعامل، كما تعلّمنا وتعلّم الدّعاة – بخاصّة – طريقة الدّعوة وأسلوب الإرشاد، اللّذين يعتمدان التّدرّج في تقديم الأوامر والتّوجيهات، والرّفق واللّين في الخطاب وتغليب منطق التّسيير والتّسهيل على نهج التّضييق والتّشديد، وتبنّي أسلوب التّبشير بدل الإنذار والتّهديد..
إلاّ أنّ هذا يجب أن يكون في حدود الشّرع، وما يبيحه، ولا يمسّ بجوهره،، أي من دون أن يصل إلى تغيير أحكامه، وتجاهل تشريعاته والتّطاول على أصوله، والتّلاعب بمفهوماته... بدعوى التّيسير على النّاس، وبحجّة تسهيل الحياة عليهم..
ــــــ اختار الرّسول  في خطبة الوداع يوم عرفة بمنى مجموعة من المبادئ العامّة ليبلّغها للنّاس، ويؤكّد عليها؛ لأنّها الأصول التي تميّزُ الدّين الإسلامي، ولأنّها هي التي تحفظ المجتمع الإسلامي من السّقوط والتّهاوي، أو التّلاشي والتّداعي..
من هذه المبادئ احترام نفس المؤمن وماله وعرضه؛ لهذا أمر أن تردّ الأمانات إلى أهلها، وحرّم الرّبا، ومنع سفك الدّماء والأخذ بالثّأر بالطّريقة الجاهليّة، وحرّم الفواحش...

ثالثًا - أوصى الرّسول   بالنّساء خيرًا، ومنع ظلمهن، كما كان منتشرًا في الجاهليّة، وحذّر من إهانتهن والعبث والتّلهي بهن، كما هو سائد في عصرنا هذا بخاصّة.. وفي توجيهات الرّسول  المعيار الذي يُفرَّق به بين إكرام المرأة وإعطائها حقوقها والعبث والاستمتاع بها بأيّ دعوى أو حجّة أو مبرّر...

رابعًا - نبّه الرّسول  إلى الاعتصام بحبل الله، والاستمساك بكتابه، وسنّة نبيّه، وأخذ الدّين الصّحيح منهما، وعدم اللّجوء إلى غيرهما في تنظيم شؤون الحياة، وعدم استيراد ما يتعارض معهما؛ إذ لا ينبغي لأيّ تطوّر حضاري – مهما يكن نوعه – أن يتجاهل هذين المصدرين..

خامسًا - ركّز الرّسول  – بعناية خاصّة – على أهمّ الحقوق التي تربط النّاس ببعضهم، وتحكم العلاقات فيما بينهم.. على رأسها حقوق الدّماء والأموال، التي غالبًا ما تكون من أسباب الصّراع والنّزاع والعراك والقتال..إذ لم تُضبط جيّدًا، ولم تراعَ في التّعامل. وربط ذلك بمراقبة الله ومحاسبته النّاسَ على ما يعملون في هذه الحقوق..قال: "ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم".

سادسًا - ألحّ  الرّسول  على العلاقات الإنسانيّة بين المسلمين. فقال من جملة ما قال: "...تعلمُنَّ أنّ كلّ مسلم أخٌ للمسلم، وأنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسَكم".

سابعًا - جعلُ الرّسول  أسامةَ زيد – وهو شاب لم يبلغ العشرين من عمره – على رأس جيش، تحت لوائه شيوخ كبار، وصحابة أجلاّء، يُسيَّرُ لقتال جيش كبير، هو جيش الرّوم، وما أدراك ما الرّوم في قوّتها؛ عتادًا وعدّة وعددًا.. فقيامُ الرّسول  وإقدامُه على هذه الخطوة الجريئة، تنبيهٌ وإرشادٌ وتوجيهٌ إلى ضرورة النّظر العميق في تدبير الأمور وتنظيم الشّؤون، وتقديم الرّجال في المواقف العظيمة، ووضعهم في المواقع المهمّة..النّظر في هذا إلى الكفاية والجدارة والحذق والمهارة..لا إلى السّنّ والمكانة واعتبارات أخرى، لا تخدم المصلحة العامّة..
فهذا الموقف وهذا التّصرّف يرشدان – أيضًا – إلى وجوب منح الفرص للشّباب ليوظّفوا قدراتهم، ويستعملوا طاقاتهم، ويستثمروا مؤهّلاتهم، وينمّوا مواهبهم.. كما يدعوان إلى التأمّل فيهما بعمق، وتثمين رضا أولئك الكبار بهذا الإجراء، إذ لم ينزعجوا ولم يعترضوا..  وقد قيل:" إنّ كبرَ السّنّ لا يهب للأغبياء عقلا، والصّغر لا ينقص للأتقياء فضلا. قال الشّاعر:    

فما  الحداثةُ  عنْ  حِلمٍ  بـمانِعةٍ
                              قدْ يوجدُ الـحِلْمُ في الشُّبّانِ والشّيَبِ


ويكشف هذا الموقف على علوّ الهمّة، وقمّة الأخلاق التي وصل إليها تلاميذ مدرسة الرّسول ، التي أحسنت تريية النّفوس وإعداد الرّجال وتكوين المجتمع المنقاد إلى تطبيق شرع الله وسنّة رسوله طوعًا وبقناعة تامّة.. هذا ما ننشده تكوّنًا وتعلّمًا من السّيرة النّبويّة الشّريفة التي تنشئ وتعدّ المجتمع الفاضل، الذي يعمر الأرض بقيم  ومقوّمات وقواعد حضاريّة، كما أرد الله  وقرّره في التّشريعات، التي أنزلها على عباده بواسطة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام..إنّ السّيرة النّبوية كلّها دروس وعبر ومواعظ لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد...

تعليق عبر الفيس بوك