مخاض

هالة عبادي - سوريا


هاربةً من جميع الأسئلة، مضت ابتسام بابنتها فجراً إلى المشفى الخاص الذي يديره كما أصرت على التكرار مراراً (ابن البلد)...
مع ساعات الفجر الأولى كانت آلام المخاض تفاجئ "هدى" ذات الأعوام الستة عشر، لكن الأسئلة الكثيرة التي تحيط بزواجها جعلت الجنين يقفز هارباً نحو الأعلى ليكون قريباً من قلبها المرتعش هلعاً... بم تجيب إن سئلت عن اسم زوجها أو عن مكان إقامته، وكيف تجيب عن سؤال من قبيل لماذا لا تملك عقد زواج أو بطاقة عائلية وهي التي تعرف جيداً معنى أنها قبلت الزواج من داعشي.
تظاهرت الأم بالشجاعة وهي تجيب على أسئلة موظفة الاستقبال، لكن توتراً أكثر من اللازم كان واضحاً عليها وهي تخبرهم أن النيران التهمت كل ما لديها من ثبوتيات وأن الظروف كانت تستصرخها أن أنقذي ابنتك، لا تنظري لشيء الآن...
أوحى صوتها بنوبة بكاء لن تهدأ لو بدأت، وأرسلت نظرة خاطفة (وهي تلعب أقدم ألعاب التاريخ - لعبة الخداع -) لتتأكد أن قصتها لاقت تعاطفاً من العاملة والموجودين لكن أحداً من الحضور لم يكن ليعيرها انتباهه فكل أتى المشفى بأوجاعه، وهل كان من الممكن أن تعلن لهم أو لغيرهم أن زوج ابنتها داعشي  تلفتت حولها وكأنها تخشى أن أحداً قد يسمع ما جال في خاطرها، كنت أراقبها وأتساءل إن كانت ستذكرني، مضى عمر على آخر عهدي بها كانت تسكن منزلاً عتيقاً قبالة مدرسة للأنشطة كنت أتردد عليها في الابتدائية، تجلس ساعات النهار أمام باب بيتها وقد تعلمت الكثير من استماعها للدروس التي تلقى في قاعات الصفوف وإن لم تكن فيها تستوقفنا عند الخروج لتلقي علينا فيضاً من الأسئلة، أدركت فيما بعد أسباب أخرى غير الفقر والجهل كانت تدفعها لهذا الجلوس حين عدت للسؤال عنها بعد تخرجي من الجامعة، العم خالد المليس (من مهن عمال البناء) تزوج بعد حب كبير من قريبته "هدية" وعاشا سعيدين برزق ربهما على قلته، وقد حرصا على مستقبل جيد لـ"ابتسام"، التي كانت بسيطة المواهب والصفات؛ بل وحتى الأحلام، ابتسام الابنة الوحيدة للعم خالد وزوجته هدية تأخرت ولادتها كثيراً لتحظى بكل حب ودلال أبويها البسيطين، ونظراً لكونها ابنة وحيدة وليست ابناً بدأت مطامع الورثة في البيت الذي يملكه الوالدان، "راكز" الذي كان يحاول حسم الموضوع لصالحه تقدم لخطبة ابتسام وهي في الثالثة عشرة من عمرها، هذا جعل أمها تقتنع بأن ابنتها كبرت على الذهاب للمدرسة، لكن انتظارها له طال سبعة عشر عاماً ليفاجئها بزواجه من أخرى، حاولت ابتسام قهر الألم الذي تسبب به لها بزواجها من حسين، أذكر كيف طحنت غاضبة وهي تكيل المسبات أساور المصاغ الذهبي الذي كان راكز قد قدمه لها قبل أن تعيده إليه، ولم يكن حسين رجلاً مناسباً لكن مع قدوم ممتاز ابنها البكر تعافت ابتسام تماماً من جرح راكز وغباء زواجها، واكتملت سعادتها وسعادة أبويها معها بولادة هدى، تعاون الجميع على تربية الولدين بينما أبوهما منشغل بهموم زواجه الأول ومسؤوليات أولاده منه ، وكانوا سعداء رغم هذا.
اقتربت منها، رمقتني بنظرة استفسار وأنا أحييها مضت فترة لابأس بها وهذا ما جعلها، أخرجت كل ما لديها من نقود ودفعتها إلى العاملة (عشرون ألف ليرة) هو مبلغ كبير في حساباتها كانت تظن أنه سيكفيها للإجراءات كلها بما فيها أجرة عودتهم إلى البيت (وإن كانت قد احتفظت بخمسة تحسباً لأي طارئ)، ترددت قليلاً حين أخبروها أن الولادة "قيصرية" وأنها ستكلفها مائة ألف ليرة، ظهرت عليها ملامح امرأة قوية، نظرت إلي وهي تعتدل قالت: ألا أشتري رجلاً بمائة ألف ليرة تبسمت مندهشة وأومأت مؤيدةً الفكرة، قلبت ما في جيوبي وحقيبة يدي لكن ما لدي لم يكن ليفي بحاجتها، لحسن الحظ اتصل ابنها، تابعتها لأعرف ما سيحدث، تحدثت برضى يخبر عن انتصار فكرتها، لقد أعلن استعداده الكامل لتحمل التكاليف، كان يشتري هو الآخر فرحاً لحياتها.
سيستقر كل شيء قالت، أردت الاحتفاظ على هذا القرب منها، حاولنا تبادل الذكريات وبعض النكاث السخيفة حول الموت المحيط الذي استوطن بلا رغبة بالخروج بلدنا، كانت هدى الموجوعة تختلس النظر إلينا وقد أحاط بها اليأس من صمود أمها أمام أسئلتي التي تطاردها كفريسة لكنها مشغولة تريد أن تقهر الألم، لقد ورثت هدى ما كانت عليه أمها التي كانت تعني كل شيء لوالدتها، غير أن ابتسام كانت وحيدة بلا أخوة.
أكدت العاملة على وجوب دفع المبلغ قبل بدء العملية، عادت ترمقني بثبات سأشتريه، نظرتها المليئة بالتركيز جعلتني أشعر بعدم الراحة، من تتحدى، وكيف ستأتي الآن بالنقود رأيتها تمد يدها إلى طوق ابنتها وتضعه رهينة عند الطبيب، تباً للنساء إذا أردن أمراً.
كنت مصدومة بما يجري، لكني آثرت الإصغاء لكلامها وكان صوتها الخافت يخترق انبهاري، سأودعك سراً لكن لا تخبري به أحداً دنوت منها أكثر اتسعت حدقتا عيني وأنا أسمعها، لم يكن بإمكاني أن آخذها إلى مشفىً حكومي ولا حتى إلى أي مشفىً خاصٍ آخر بسبب زواجها من داعشي.
كانت قد تسربت شائعات كثيرة حول إكراه الدواعش الفتيات على الزواج، وبدون اعتبار لموافقة الأهل، وكانت تعيش بينهم وذكروا فيمن ذكرن ابنتها ذات الأعوام الخمسة عشر، قالوا أنها أرغمت على الزواج بداعشي وأنه لم يكن قد مكث معها شهراً حين دعوه للجهاد، خرج ومنذ ذلك الحين لم يعد ولم تسمع عنه شيئاً، انتظرت أن أسمع منها ما يؤكد هذه الرواية لكنها نفت ما لا يروقها منها، وقبل أن تستطرد سألتني: لأي جهة تنتمين؟ ضحكت ملء فمي وقلت: النظام بكل تأكيد اضطربت قليلاً فسألتها إن كانت تنكر نسبي، طمأنتها أني إن وشيت بها فإني لا أستحقه، استعادت هدوءها وأكدت أنه كان زواجاً شرعياً وأنها تحتفظ بالعقد وبوثيقة استشهاده، لكن الطفل ابن الثاني، لم أملك إلا الاستمرار في الاستماع لها، وهي تروي تفاصيل ترددها على الحسبة لاستلام كفالة الشهيد وكيف أعجب المحاسب بزوجة الشهيد وتقدم لخطبتها، كانت تتحدث عن كرم زوجة المحاسب الأولى واحتفالها بالزوجة الجديدة، عن الهدايا والأشياء الجميلة التي أغرقتها بها بينما يلوكني ألف سؤال كلها تبدأ بلماذا .قاطعتها لأسأل: وأين هو الآن؟ عاودها الخوف ثانية وهي تنفي معرفتها بالمكان الذي هرب إليه مع زوجته الأولى وأولادهما الخمسة.
سألتها بوضوح وكنت أنتظر الإجابة بمثله: أكان الزواج رغماً عنها؟ أقسمت أيماناً أنه كان كأي زواج طبيعي وأنه كان رجلاً مسؤولاً، احترم العقد الذي ربط بينهما وأنه كان كريماً سخياً بحنانه وماله، أعرف جيداً ما عانته ابتسام من ابن عمها الذي ربطها سبعة عشر عاماً وهي مخطوبة له ليتركها عندما أتمت الثلاثين من عمرها - وكانت الثلاثين سن العنوسة حينها - ويعلن زواجه بأخرى، صدمتها بالخبر جعلها كالمجنونة تطحن الحلي التي أهداها لها قبل أن تعيدها وتقبل الزواج بالخاطب التالي مباشرة الزوج الذي لم يكن على قدر المسؤولية، معاناتها معه كانت عميقة وكبيرة لكنها انتهت عندما وضعت ابنها البكر ممتاز ثم اكتملت سعادتها بهدى، هي الأخرى اشترى لها أبواها ممتاز وهدى اللذان لم يعرفا أباً لهما غير الجد، حتى البيت الذي ربطها ابن عمها طمعاً به جعله من نصيبهما وحدهما، زاد الكمد في قلبي لم أعد أعرف إن كانت هذه المرأة محقةً أم لا، تناولت منديلاً لأمسح دموعي التي فاضت، قالت: ستكون بخير ليس علينا أن نقلق، كل ما حدثتني به كان منفراً ولا أجد له مبرراً لكن قلت لنفسي إن كان يسعدها فماذا يعني أن أرفضه أو أستنكره، وإن لم أكن أتمنى أن يحدث أبداً، سألتها ولم أستطع أن أكتم القلق: أتعتقدين أنه سيعود ؟
لم تبد أي استعداد لتخبرني أكثر، أنقذتها صرخة المولود الجديد، كانت تمارس نوعاً غريباً من الراحة وهي ترفعه إلى وجهي بسرور: انظري إلى عمر، ألا يستحق أن أشتريه؟
شعور غريب غمرني وزال سريعاً وأنا أتأمل أكان خوفها من أن يتكرر ما حدث معها يدفعها للتصرف على هذا النحو أم سطوة أبو عمر ضحكة هدى وهي تعلن خبر وصول ابنها على الفيسبوك نفت أغلب ما حاولت الأم اقناعي به.

تعليق عبر الفيس بوك