الفجر الضحوك

 

عائشة البلوشية

بدأت ساعات الفجر الأولى وأنا أناظر صفحة السماء في مومباي المدينة التي لا تهدأ أبدًا، أرنو إلى انعكاس الأضواء على شاطىء بحر العرب، الذي آلت مياهه إلى السواد بسبب ظلمة الليل وغياب القمر عن رفقته، فنحن في نهاية شهر صفر، شخصت ببصري ووجيب صدري يحاور تلك النسمات الباردة، إنه الثامن عشر من نوفمبر المجيد، عيد آخر أقضيه بعيدا عن تراب بلادي الحبيبة، مفتقدة تلك الأجواء الاحتفالية الجميلة، حيث ينتشر البشر والفرح فيختلط مع ذرات الأجواء، لتنتشي الروح تعلقًا بكل شبر، ويجيبها القلب عشقا لولي الأمر، ولأنه الفجر أتى بهدوئه تسربت إلى ذاكرتي أبيات جميلة:

 

أنقى من الفجر الضحوك.. فـهل أعرت الفجر خدك،

وأرق مـن طبع النسيم.. فـهل خلعت عليه بردك،

وألـذ مـن كأس النديم.. فهل أبحت الكأس شهدك،

وحياة عينك وهي عندي.. مـثلما الأيـمان عندك،

ما قلب أمك إن تفارقها.. ولـم تـبلغ أشـدك،

فـهوت عليك بصدرها.. يـوم الـفراق لتستردك،

بـأشد مـن خفقان قلبي.. يـوم قيل: خفرت عهدك.

قصيدة "إني مت بعدك" هي من أروع ما كتب بشارة الخوري أو الأخطل الصغير، وهي من أعذب ما لحن وغنى فريد الأطرش على مقام البياتي في عام 1973، تنساب الكلمات متناغمة كأجمل ما يكون الانسجام مع الجمل اللحنية، كونها تقرب الشبه بين شيئين يسلب كل منهما من الآخر شيئًا، أولهما الفجر وثانيهما خد المحبوب، فالخد يستعير من الفجر نور بياضه، والفجر يسرق من خد المحبوب نعومته وضحكه.

الفجر ذلك الوقت المملوء خصوصية من اليوم، يعتبر أشد فترات اليوم نقاءً وصفاءً وهدوءًا، عندما يبدأ النساك والزهاد في التبتل إلى رب الأرضين والسماوات، ليبلغ تقربهم ذروته عندما ينزل سبحانه بعرشه إلى السماء الدنيا في الهزيع الأخير، وكلهم يقين أنه تعالى مجيبهم، وتتقلب أحوالهم ما بين سائلين راجين ومستغفرين طالبين، وتعلو روحانيات العباد فتصدح ترانيم حناجر أرواحهم بوجد مرتفعة مع كل ترنيمة لترقى في كل فلك من أفلاك الحب الإلهي، ويخلو الأدباء والشعراء بدواتهم وأحبارهم ليسكبوا أفكارهم على ورق الرجاء، ثم ولإضفاء كم من الجمال قرن الفجر ذلك الوقت السحري المليء بالغموض بالضحك، كيف لا وهو يفتر عن ثغر السماء ببياض محياها، وكأنها إحدى الحسان تضحك إلينا لتهمس إلينا ببشائر اليوم، ويأتينا الأخطل الصغير معلناً أن خدها أشد نقاء من الفجر الضحوك، كأبلغ ما يكون التشبيه؛ وليس الخوري هو الوحيد الذي كتب عن الفجر الضحوك، فكم نظم الشعراء في هذا الوقت بالذات من الأربع والعشرين ساعة من اليوم من أبيات جميلة، بثوا فيها من لواعج النفس وأحاديث القلوب المُتيمة أو المعذبة.

وبالنسبة إلينا نحن العمانيين فللفجر مكانة عظيمة وجميلة في قلوبنا، فقد جاء ميلاد حبيب قلوبنا في ساعات الفجر الأولى في الثامن عشر من نوفمبر ليشاء الله أن يطل على عُمان واعدا إياها بالخير والبشر وبالجمال كالفجر الضحوك، نعم.. جاء مولاي قابوس بن سعيد -حفظه الله- فجرا يشق ظلام العزلة التي أحاطت ببلاده ردحًا من الزمن، فتسلح بنور حبه لعمان فمسح على رأس الأرض وجعل من ظل كل شجرة مدرسة، ليحول بعشقه لشعبه الجهل علمًا، واستعان بضياء حكمته فرفع مكانة شعبه بين حضارات العالم، وتدثر برقي خلقه فنسج بكفوفه البيضاء من السلام ثوبًا قشيبًا يربط عمان بالصداقة والأخوة مع كل بقعة في الكرة الأرضية، فكيف بعد هذا كله لا تتحدر دمعات تلك الطاعنة في السن وهي تدعو لسلطانها المفدى بنبض قلبها؟، وكيف لا تشع الابتسامة على ثغر ذلك الطفل البريء وهو يقول: "أحبك بابا قابوس" بكل صدق، طابعًا في باطن كفه الأيمن قبلة يتمناها أن تصل إلى كف حبيبه ووالده، وملوحا بالعلم بيده اليسرى؟، وكيف لا تشرق عيون ذلك الكهل وهو يردد بلغة عربية ثقيلة تشوبها لكنة العجم: "الله يخلي سلطان قابوس، الله يطول عمر سلطان قابوس" ماسحًا دمعات سالت على وجنتي الحب الخالي إلا من الصدق؟، وكيف لا يكون لشروق شمس ذلك اليوم شعاع مختلف على قمة جبل شمس بالداخلية، عندما طارت بالبشارة تلك المرأة لمولاها السلطان سعيد بن تيمور طيب الله ثراه؟، كيف لا يصبح لحفيف نخل الظاهرة لحن مختلف عندما وصل خبر الميلاد المجيد من ظفار إلى الشمال؟، كيف لا يرى لنوارس بحر عمان رقص من نوع خاص في زرقة سماء مسندم، وهي تتناقل بشارات ولادة سيد عمان؟ كيف لا يكون لأمواج ساحل الباطنة لغة الفرح وهي تغسل الشواطئ بهجة المولد الميمون؟، وكيف لا تفوح مجامر الشرقية كرماً بلبان البشارة الندية؟، وكيف لا تضيء أسنمة الإبل سعدا في الوسطى وهي تتمايل حاملة الأنباء مخترقة رمال الصحاري؟

عمان السلطنة.. أنعم الله علينا بأعظم نعمة بمولد هذا الأب القائد، فاللهم يا من بيده كل شيء أدم علينا نعمك واحفظها من الزوال؛ عمان السلطنة.. كل عام وسلطان السعد وفأل العز والخير رديفا لأيامك، وكل عام وميلادك يتجدد براية حكيم الزمان خفاقة على كل قمة وفي كل واد في أرضك، كل عام تحسب ثوانيه بكل خفقة قلب عماني تدعو لخالقها بالحفظ والعمر المديد والعيش الرغيد وعافية تتجدد وتزيد لولي أمرها حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم قابوس بن سعيد.

 

توقيع:

"العين بعد فراقها الوطنا..

لا ساكـناً ألفت ولا سكنــا.

ريانة بــالدمع أقلقهــا..

ألا تحـس كــرى ولا وسنــا.

كانت ترى في كل سانحـــة

حُسناً وباتت لا ترى حسنـا"

من رائعة خيرالدين الزركلي.