عبيدلي العبيدلي
يواصل زوار معرض الشارقة للكتاب انتقالهم من قاعة لأخرى، ومن جناح في هذه القاعة إلى آخر، تشدهم نحوها جميعا ظواهر غير مسبوقة في معارض الكتب العربية. فعلى مستوى المحتوى، كانت هناك مجموعة منها دمجت في واحدة أخذت اسم الصالة الهندية. عظمة الحضارة الهندية تتجلى في معروضات هذه القاعة التي لم تكتف بالكتاب المطبوع، بل نقلت محتويات القاعة الكثير من المعروضات التي تكشف عن كنوز الحضارة الهندية العريقة.
حكومة الهند ذاتها، وجدت نفسها تستجيب لدعوة معرض الشارقة، فتقدم الدعم السخي لكل صاحب مشروع ثقافي/حضاري هندي، مما أدى إلى اكتظاظ القاعة بالجالية الهندية، الذي لم تحصر نفسها في هنود الشارقة، بل اتسع نطاق تغطيتها، فأغرت هنود الإمارات الأخرى، بل وحتى عمان، بشد الرحال للمعرض على وجه العموم، وهذه الصالة على وجه الخصوص.
تحاشيت زيارة أجنحة دور النشر المتخصصة في أدب الأطفال، لكن قدماي ساقتني نحو المحطة الثانية الأبرز في جولتي هذه، وكانت عند "قنديل للطباعة والنشر والتوزيع". عناوين توزعت على أرفف الجناح، وتعددت مشارب المعرفة التي تغرف منها. تبدأ بكتب تطوير الذات، ولا تتوقف عند "الاقتصاد المعرفي وأثره في النمو الاقتصادي". في أحد أركان تلك الأرفف، وقفت بشيء من الشموخ مجموعة من كتب الأطفال لمحت ما يدل على أن مؤلفيها من أبناء الإمارات المتحدة.
لمح المدير العام لدار قنديل سالم العويس انشدادي نحو تلك المجموعة، فبادر بجمعها في حزمة وأودعها بين يدي، مصراً على أن أقبلها كهدية، إن شئت أن أعرف القصة الحقيقية التي تكمن وراء نشر هذه المجموعة.
كرم الأخ سالم، ورغبتي الملحة في اقتناء المجموعة، حسم الأمر، وقبلت الهدية النفيسة، وكانت مجموعة من خمسة كتب هي الوجبة الثقافية الأولى من مشروع طموح ضخم، يهدف إلى تأهيل موجات متتابعة من كتاب القصة للأطفال. يتطلب الأمر توفر الموهبة الذاتية، والثروة الثقافية، والمستوى التربوي للمترشح، كي يتسنى للبرنامج دمج كل هذه القدرات في منظومة تأهيلية متكاملة تتولى صقلها كي يهيئ صاحبها، لاكتساب كفاءة مخاطبة الطفل العربي، بلغة سلسلة ميسرة، "كاملة الدسم"، لكنها لا تعاني من أورام الضحالة اللغوية، ولا انتفاخات القصور المعرفي. يحمل هذا البرنامج اسم "ورشة الكتابة للطفل".
يخاطب كل عنوان من العناوين الخمسة الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 8 – 13 سنة. وقد صممت محتويات تلك الكتب بشكل جميل ومشوق قادر على مخاطبة تلك الفئة العمرية على النحو الذي يحول لديها اغتراف المعرفة من واجب قسري، إلى حب فطري!
لن أسرد هنا، أو حتى ألخص، حكاية "اختلافنا سر سعادتنا" من تأليف عائشة عباس، وإشراف د. وفاء ثابت المزغني، وهو أحد عناوين كتب تلك المجموعة، كي لا أفسد على قارئ متعة اقتناء الكتاب وقراءته مع أطفاله، وإن كان مدرسا مع أولاد صفه، واكتفي بالإشارة، كما يوحي العنوان، وتشرح وقائع القصة، أن تنوع الطبيعة، تماماً كما المجتمع، هو سر حيويتها واستمرارها.
ومن ثم توحي محتويات الكاتب لقارئه الطفل أهمية التنوع، وضرورته من أجل بناء مجتمع إنساني، يعترف فيه الواحد بالآخر، دون بذل أية مشقة ترهقه وتبدد طاقاته لمعرفة أصول هذا الآخر العرقية، أو انتماءاته الفكرية، أو خلفيته الحضارية. فما يجمع بين البشرية من قيم إنسانية كفيل بتذويب مثل تلك الفروقات التي تجعل من التنوع مصدرا من مصادر المتعة ومن ثم التطور.
مرة أخرى لجأت إلى الأسلوب الاستفزازي كي أتمكن من قياس عمق جذور الثقافة في مجتمع الشارقة. فحاولت أن "أقزم" من قدرات الشارقة الثقافية، وإن ما نشاهده لا يعدو كونه أحد المظاهر العارضة التي لا تعكس عمق جذور التجربة الثقافية التي تحاول الشارقة أن تصبغ نفسها بها.
التفت نحو أحد أعضاء فريق العاملين في جناح "قناديل"، مشيرًا إلى أن المعرض ليس، كما يتوهم البعض، فعالية عابرة في سماء الشارقة. لدهشتي وجدته ينفعل، ويترك كل ما كان بين يديه ويستدير نحوي قائلاً، أفضل ما يعكس عمق التجربة الثقافية في الشارقة وغناها، ما جاء على لسان سمو الشيخ سلطان القاسمي في مداخلته في الجلسة الحوارية "الثقافة والتنمية"، مؤكدًا على أن "نجاح تجربة إمارة الشارقة في مجال الثقافة والمعرفة ترجع أسبابه إلى عوامل كثيرة من أهمها وجود البيئة المناسبة والخصبة الملائمة لها".
واستطرد قائلاً في ثقة ترغم المتلقي على الاقتناع بأن الأمر لا يعدو مظهرا استعراضيا مستعينا هذه المرة أيضاً بأن "صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، "من دعاة الثقافة والمعرفة وليس من أصحاب السياسة، وأنه (أي القاسمي يؤكد على) ضرورة النأي بالثقافة عن الأمور السياسية، فللسياسة ظروفها ومتطلباتها، ومنهج الشارقة في مشروعها الثقافي والتنموي عدم الخوض في أمور السياسة والتركيز على خدمة الإنسان وزيادة مداركه العلمية والفكرية".
وواصل حديثه في انفعال "ثقافي" قائلاً، الكل يعرف أن "الشارقة منحت لقب عاصمة الثقافة الإسلامية للعام 2014 اعترافاً بدورها الثقافي الكبير، حيث تم اختيارها بعد مطابقتها للشروط والمعايير الأساسية للعواصم الثقافية الإسلامية التي وضعتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)"، ثم استطرد مشددا على أنه لم يكن "اختيار (اليونيسكو) للشارقة غريباً، لتكون أول مدينة خليجية تنال لقب العاصمة العالمية للكتاب، والثالثة في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، بعد الإسكندرية عام 2002 وبيروت عام 2009".
ومن المعروف أيضًا نيل الشارقة "لقب عاصمة العرب الثقافية لعام 1998م، من قبل المؤتمر العام للمنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)".
لم يعد في جعبتي ذخائر "استفزازية" التي بحاجة لأن تستخرج المزيد من الشواهد التي تؤكد سير الشارقة بخطى ثابتة راسخة في طريقها الثقافي الذي يؤسس لثقافة مترامية الأطراف، تخيط نفسها بشكل واع في نسيج التنمية الشاملة، بمعينها الحضاري الواسع، الذي لم يعد القارئ بحاجة إلى إلقاء الضوء على تعريفاته.