عــلي بن ســالم كفيتـان
مرت الأيام وكانت الدراسة في نيابة غدو المجاورة جاذبة لنا رغم الصعاب والتحديات، فعذوبة أخلاق الناس وطيبتهم الأزلية جعلتنا نشتاق للقياهم والتحدث إليهم. لقد أصبحت أعرف معظمهم. وأبناؤهم صاروا أصدقاء مخلصين، وزرت سكونهم فلقيت الترحاب والكرم ونبل الأخلاق، من الرجال الذين ظلوا في الذاكرة التاجر المتجول المعروف (بر هظيت) لديه سيارة بيك أب، وفيها دكان متجول، وكعادته يحضر يومياً وقت الفسحة ليبيع في المدرسة.. لا زالت رائحة النعناع وكرات العلك المدورة بألوانها الزاهية حاضرة في مخيلتي، أبحث عنها أحيانا في السوق لاستعادة شيء من تلك الأيام، ولكنها اختفت كما اختفى الكثير مع هؤلاء الناس الطيبين.
كان هذا الرجل رحيماً بالجميع وخاصةً بصغار السن والناس الغرباء عن المنطقة أمثالنا، فكان يهدينا شيئا مجانيا دائما، كما كان الشيوبة القابعون تحت الأشجار ينادونه ويطلبون منه أشياء، وأظنهم لا يدفعون مقابلها فلا زالت صورته وهو في الصندوق الخلفي لسيارته ويقذف لهؤلاء الرجال ما وصل إلى يده من الأشياء علبة بسكوت أو نعناع أو علك، وتجد الواحد منهم يتفحص تلك المادة لبضع دقائق ثم يدس اصبعه ليفتحها ومن ثم يتذوق بطرف لسانه فيقرر إن كانت صالحة للاستهلاك الشخصي أو يقوم بوضعها في جيب قميصه الأمامي وغالب الظن ستكون هدية لمن سبق من أبناء قريته عند عودته في المساء.
في أحد الأيام تفاجأت بأن استدعاني مدير المدرسة؛ وغالبا لا يستدعي أحدا إلا إذا كانت هناك مشكلة، أوجست خيفة من هذا الاستدعاء وكالعادة حاول أن يتبعني صديقي محاد مهوري لكن الأستاذ منعه بحجة أن الاستدعاء شخصي، ذهب بي الأستاذ إيهاب وأنا أجر رجليّ النحيفتين خلفه، وكنت أفكر هل من ذنب اقترفته وعند وصولنا لباب المكتب انصرف الأستاذ وبقيت أنا وجها لوجه مع المدير، فرحّب بي وأجلسني، ثم قال لي إنّ هناك سيدة تأتي كل يوم وتسأل عنك وصرفتها لعدة أيام بحجة أنك تدرس ولا مجال لإضاعة وقت الطلبة، واليوم أتت مجدداً ولم تترك لي مجالا، لذلك أود أن أسألك هل تعرف أحدًا هنا، فأجبته على الفور بالنفي، وفي هذه اللحظة زادت حيرة الرجل واسترقت أنا النظر للخارج لعلي أعرف السيدة ولكن صورتها وهيئتها لم تكن مألوفة لديّ.
ذهبنا معاً إلى ظل الشجرة حيث تجلس تلك المرأة، كشفت عن وجهها ورحّبت بي أشد ترحيب وسلّمت علي وأخذتني في حضنها وعلامات الاستغراب الشديد لا زالت على وجهي، هنا قالت لي أنا (بنت أحافني) خالتك قريبة والدك ومتزوجة من رجل كثيري هنا، سمعت بك وحبيت أزورك وأعاتبك لأنك ما تجينا وحتى هذه اللحظة المدير واقف وأنا أستمع لتلك السيّدة الطيبة وأذكر أنّها حاولت أن تعطيني مبلغا ماليا ولكنني رفضت وأخبرتها أنّ معي ما يكفيني. وهنا حضر زوجها؛ رجل طيب ودود، وصف لي مسكنهم غير البعيد وعرض عليّ أن أظل معهم ولا أرجع يوميا إلى طيطام، وعدتهم بأني سأزورهم قريباً، وعندها أخذني المدير الواقف كالطود خلفي وقفل بي عائدا إلى الصف.
انسحب الكثير من زملائنا القادمين معنا من طيطام من الدراسة بحجة البعد وصعوبة الوصول، وبقينا نحن ثلاثة فقط؛ أنا، ومحاد عيسى مهوري، ومحمد أحمد نصيب – حفظهم الله – ولا أذكر يوما أننا أتينا معا أو ذهبنا معا إلا نادراً فأنا أحضر في الهزع الأخير من الليل مع أخي محمد - حفظه الله - وعند العودة أفضل زيارة مركز فرقة الباحة مع أبناء تلك المنطقة الذين يصممون أن أذهب معهم بحكم علاقات المصاهرة التي تربط أسرتي بأهلهم الطيبين، فرغم صغر سني ونحول جسدي كانوا جميعا يتنادون لإكرامي صغيرهم وكبيرهم، وكنت أجد عندهم أحياناً بعض الرجال من منطقتنا هناك. وأعتقد أنّ أبناءهم نالوا بعض الميزات الإضافية بوجودي معهم يومياً، وغالباً بعد الغداء يقلني أحد هؤلاء الرجال النشامى إلى مفرق طريق بيتنا حيث أجد سيارات أخرى تقلني إلى المنزل، وإن لم أجد فلا ضير من المشي فهو شيء تعودنا عليه وصار جزءا من رحلتنا اليومية للمدرسة.
استودعتكم الله، موعدنا يتجدد معكم بإذن الله..
حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.