العُمران بين الطالعِ وسطوة الفلك

أ.د/علي ثويني – خبير معماري باليونسكو – السويد

 

 نسج الإنسان علاقة واعية مع ظواهر السماء خلال التحولات الأربع الكبرى التي واكبت تطوره، وأحدث كل منها انقلابًا حياتيًا، ولاسيما إبّان التحول الثاني أو (الباليوليتي)، وحدثت قبل عشرة آلاف عام، حينما ترك الكهوف، وبنى بيوتًا وسقوفًا وتجمَّع في مستوطنات، واكتشف الزراعة ودجن الماشية، وهاجن بين هواجسه الروحية وسطوة السماء، واكتشف أن ظاهرة المد والجزر مرتبطة بمنازل القمر، وتسائل: "إذا كان لها تأثير على المياه فكيف لا تؤثر عليه". وإبان رغبة إدراكه لها ومسايرتها، تسللت لمنتجه الإبداعي ومنه العمران والبنيان.

يمكن أن تكون تسمية (أنانا) الأقدم لآلهة وردت في بواكير التدوين بسومر، والتي تحولت عند الأكديين إلى (عشتار) ومعناها "عيشة الأرض"، وحظيت بمنزلة إستثنائية، واختصت بمهام عدة مثل الحرب، والحب، والخِصْب، ورُمِزَ لها بالأسد ومعبدها الرئيس في (نينوى) وأربيل (أربع أيل). وهي تقابل (عناة Anat) عند بعض شعوب الشرق، و(عثتر) عند عرب الجاهلية و(عشتاروت) عند الفينيقيين و(أفروديت) عند الأغريق، و(فينوس) عند الرومان و(آشتر) عند الهنود.
واختصت بكوكب الزهرة، فهي نجمة الصباح أو المساء وحقيقتها نجمين مترادفين ساطعين، ويرمز لها بـ(النجمة الثُمَانيَّة) أو (الست عشرية) لدى البابليين والناتج عن دوران المربع (المقدس). ومنها استلَّت اصطلاحات  لُغوية بمعنى النجمة مثل (Astra) والفصح (Easter)، وعلوم التنجيم  (Astrology) والفلك (Astronomy ).

وكان لها في بابل وحدها مائة وثمانون معبدا على جانب الطريق الرئيس (شارع الموكب)، وكان توجيه البناء للمعبد يتمّ في محور الزهرة ونجم الصباح وتوجّه الغرف الداخلية للكهنة بصلة مع النجم الممثل لآلهة المعبد، ويتم التوجّه بالصلاة وتقديم النذور لها،  وكانت تخصص حجرة داخليه صغيرة في مجمع الآلهة السبعة التي تحدد مصائر العالم، وكان يرمز للآلهة (آنو) بالرقم60، و(انليل) بالرقم 50، و(آيا) بالرقم 40، و(سين\القمر) بالرقم 30، و(شمش) بالرقم20، و(عشتار) بالرقم15، ولهذه الأرقام سطوة في قياسات البناء والأبعاد و(المودول) والنسب التخطيطية والجمالية للبناء. وتجسدت في عمارة الأبراج المدرجة أو (الزقورة)، و تعني (المعبد العالي). التي سمت حتى 200 متر منسقة بالتدريج التنازلي على سبع بسطات،  الأولى ترمز لـ(زُحل)، والثانية للزهرة، والثالثة للمشتري، والرابعة لـ(عطارد)، والخامسة للمريخ، والسادسة للقمر، والأخيرة للشمس.

وفي (المانويّة)، ثم الصابئة "المندائية" حتى اليوم يوجّه معبدهم (المندي) باتجاه نجمة الصبح. وحري الإشارة إلى أن (الزقورة) هي النموذج الأول لعنصر المنارة في العمارة الإسلامية.
واهتم الفراعنة بعلوم النجوم وتوائمت الفنون والعمارة مع مفهوم الحياة الآخرة في حضارتهم انسجاما مع الظن بأن أرواح الموتى تسير بمحاذاة النجوم التابعة لأبراجها داخل القبة السماوية وتماهت مع الاعتقاد لديهم بأنها ذات طبيعة مزدوجة وتقع إحدى طبقاتها فوق الأرض والأخرى تحتها.

وبدأ العلماء لاحقا يلتفتون إلى بعض الظواهر المحيرة هندسيا المتعلقة بمساقط وهيئة  الأهرامات. وجاء اصطفاف اثنين منها وهما (خوفو وخفرع) بشكل منتظم على خلاف أصغرهم الثالث (منقرع) فقد جاء موقعه منحرفا قليلا. وجاءت نظرية عالم أمريكي في أوائل التسعينيات بأن المواقع الثلاثة للأهرامات محسوبة فلكيا بدلالة ثلاثة نجوم تقع في منطقة وسط درب التبانة، والتي تشكل ما يشبه الحزام والذي يعرفه الفلكيونOrionBelt،، كون المسافات بين النجوم الثلاثة والزوايا بينها مطابقة لمواقع الأهرامات الثلاثة، ويقع نجمان منهما على خط مستقيم ويميل النجم الثالث بزاوية 45 درجة عن هذا الخط، ولكن كانت هناك مشكلة لم تستطع النظرية تقديم تفسير لها، وهي أن الشمال والجنوب للخط الذي تقع عليه النجوم الثلاثة، معاكس للخط الذي تقع عليه الأهرامات الثلاثة، بمعنى أن الشمال بالخط السماوي هو الجنوب والخط الوهميّ الذي يربط الأهرامات الثلاث ببعضها.

ثم جاءت نظريّة عَالِمَي المصريات الفرنسيان (بوفال) و(كولبير) حينما أوحى لهما ذلك الانحراف بصلة مع موقع إحدى نجوم برج الجوزاء الثلاث. ويعني بأن الهرم المنحرف كان يقابل نجمة (اوزاريس) والذي هو النجم السري لدفين الهرم. واكتشف العلماء بأن قبور الملك والملكة في داخله تطل من خلال ثقب فتح في سقفها خصيصا باتجاه النجم الخاص ببرجها والمرتبط بطالعها في حياتها الأولى، وسوف يلعب دورا عند بعثها. وفي إحدى الردهات  ثقبين متخالفين يؤديان بالرؤية في يوم معين إلى نجمَي (الشِّعْرَى) اليماني (إلى الجنوب)، والقطبي الشمالي في الوقت نفسه. وجاءت مواقع النجوم في مصر القديمة محددة لاتجاهات واجهات المعابد وخاصة معابد وادي الملوك. و قورنت بمعابد ومبان دينية بكمبوديا وأمريكا الجنوبية لمعرفة الروابط بينها وبين مواقع النجوم، ووصلت بعض الدراسات لنتائج مطابقة لنتيجة هذه النظرية بدلالة مواقع نجوم السماء.

واهتم العرب في الجاهلية والإسلام بمواقع النجوم، وأوحت قصة سليمان وبلقيس في سورة النمل بذلك ونجدها في أطلال المعابد والقصور الدَّارِسَة وسواري الأعمدة في اليمن بالتوجّه للشمس. لكن تحاشى الإسلام ربط العمائر بالفلك  أو الطالع والتنجيم، رغم أن كثير من الملوك كانوا يلجأون لنبوءات المنجِّمين في معرفة دوام ملكهم، أو تمصيرحواضرهم. وقد ورد في (نزهة القلوب) للقزويني (ت . 1349 م)  بأن سعد ابن أبى وقاص شرع في بناء الكوفة يوم 23- يناير-638م  عندما كان طالعها في برج الدلو موحيا بالتفاؤل.
وورد في  (كتاب البلدان) لليعقوبي بأن أبي جعفر العباسي حينما ابتدأ في بناء مدينته المدورة  (بغداد) يوم الثلاثاء 23- يوليه - 761م بأن البناء كان في ذلك  اليوم من سنة 1074 للأسكندر الموافق اليوم 25 ربيع الثاني سنة 145هـ، حيث وضع أساس المدينة في وقت اختاره المنجِّم (نوبخت) و(ماشاء الله بن سارية)، وإن الذين هندسوا المدينة فعلوا ذلك بمشورة (نوبخت)، و(إبراهيم الغزاوي) و(الطبري) المنجِّمَين.

ولفتت انتباه الباحثين مسجد صغير يقع في كرخ بغداد يدعى (مسجد قمرية خاتون) مبنيٌ عام 1228م ويعد من أصح مساجد بغداد قِبلةً كما ذكره الآلوسي في كتابه (مساجد بغداد)، والملفت للنظر وجود فتحات تحت قبَّته حينما يَلِجُها شعاع الشمس يؤذن بحلول موعد الصلاة وهذا يدلل على معرفة  معمار الجامع بحركة الشمس وهذا مستوى رفيع في الاحتراف المعماري.
   
وذكر المقريزي في خططه بأن جوهر الصقلي باني القاهرة بأمر المعزِّ لدين الله الفاطميّ عام 969م جمع المنجمين طالبا أن يختاروا طالعا سعيدا لتأسيس المدينة فشرع الحفَّارون ببناء أسس الأسوار والجدران وثبَّتوا فيها قوائم ربطت بحبال، وعُلِّقتْ عليها أجراس وكان متفق حينما تحين اللحظة المناسبة يرسل المنجمون إشارة لبدء العمل. وأبلغ المنجمون العمال بأن يقفوا على تمام الأهبّة لإلقاء الحجارة والمونة التي كانت في متناول أيديهم في الخنادق المحفورة بمجرد صدور الإشارة لهم. ولكن قبيل أن تحين اللحظة المنتظرة وقع غراب على الحبال الممتدة فدقت الأجراس فظن العمال أن المنجمين قد أعطوا الإشارة فبدأوا العمل وصادف أن كان في هذه اللحظة كوكب المريخ في الأوج ونظرا إلى أن هذا الكوكب كان  يسمى قاهر الفلك اعتبر ذلك فألا غير حسن. ويظهر من رواية المقريزي أن اسم المدينة الأول الذي اتفق عليه كان (المنصورية) والذي اقتبس من اسم الخليفة الفاطميّ الثالث المنصور بالله. وقد استمر اسم المدينة هكذا أربعة أعوام حتى حلول المعز لدين الله عليها، وعدَّ اسمها المشتق من (القهر والظفر) وهو فأل حسن فثُبِّتَ هكذا وكانت القاهرة.

وقد ذكر المسعوديّ (ت 943 م) في تاريخه حادثة مشابهة لتلك أو ربما مقتبسة منها وذلك عندما أنشأ الأسكندر المقدوني مدينة الإسكندرية وظل ينتظر كذلك حلول الطالع الحسن حتى تمَّلَّكه النوم فحدث أن حطَّ غراب وفعل الشيء نفسه فطفق العمال بالبناء وعندما استيقظ وعرف ما حدث  قال (أردت شيئًا وأرادت الآلهة شيئًا آخر).

وتعرَّف المسلمون من خلال النجوم على مواقع المدن ومساحاتها وخاصة موقع مكة المكرمة في تثبيت وإسقاط مخطط المسجد الجامع الذي يحدد بدوره المخطط العام للمدينة الإسلامية.  وورد ذكر أولاد موسى بن شاكر في التاريخ العباسي، أيام المأمون في المشاريع العمرانية والري والطرق وغيرها من الأعمال التطبيقية. وقد قاسوا عرض بغداد عام 859 م على حساب النجوم المتعارف عليه فقيدوه  بـ 33  درجة و 20 دقيقة وهو أقل بـ 10 ثوان عن الحقيقة اليوم.  
وثمة إيحاءات في تصميم ملوية سامراء، حينما دار سلمها الحلزونيّ محاكيا لمجرَّة درب التبَّانة وباتجاه معاكس لعقارب الساعة تماما كدوران الأرض حول الشمس أو الالكترونات في مداراتها، طبقها معمارها دليل بن يعقوب النصراني القادم من الحيرة وبابل.  

وسرى  استعمال الساعات الشمسية (المزولة) في كثير من المساجد، وهي واردة من الزوال أو منتصف النهار أو سمت الشمس. وتعود بواكيره إلى العراقيين والمصريين القدماء، وأقدم الأمثلة في مصر تعود إلى 1500 ق.م، وتتكون من حجر منبسط عليه قضيب على هيئة (L)، وتطورت لاحقا، وصنع بيروسس (كاهن كلداني) مزولة نصف كروية، ثم ازدادت دقتها في القرن الأول الميلادي، فأصبح وضع القضيب موازيا لمحور دوران الأرض.
وأكبر المزاول في العالم كانت إسلامية صُنعت في جايبور بالهند عام 1724، وهي تغطي مساحة (فدان مصري) ويبلغ ارتفاع عمودها 30,5 م.
واستمر استعمال المزاول  حتى القرن 18 م، واضمحلت بعد انتشار الساعات، وأخذ في الاعتبار الفرق بين الزمن الظاهري الذي توضّحه (المزاول)، والزمن المتوسط الذي توضحه (الساعات)، وكذلك تحويل الزمن من الوقت المحلي (المزاول) إلى (خط الزوال الأساسي للمنطقة). ومازالت عمائر الأزمنة الخوالي تحمل الكثير من الأسرار في علاقتها  بالفَلك والكواكب.

تعليق عبر الفيس بوك