النَّفْسُ الإنْسَانِيّة فِي القرَآن

محمد عبد العظيم العجمي - مصر


الحديث عن النفس الإنسانية؛ حديث ذو شجون لا ينتهى، لما يكتنف هذا المخلوق العجيب من الأسرار والأفكار، والأنوار أحيانا، وما أودع الله فيه من النفحات والإلهامات طالما تظل تستوقفنا.. فنتأملها كثيرًا، ونسبر أغوارها أكثر، ونفنِّد أسرارها بمشارط المنطق تارةً، وتوق الروح تارةً أخرى، وكلما طرقنا بابا كلما تكشَّف لنا من الأفهام والفتوحات مايجعلنا نوقن ونشيد بقدرةِ هذا المخلوق وعظمة مَنْ سَوَّاه.
وإذا كنا بعد هذا الردح من الزمن لم نُحِط علما بكل تفاصيل هذا الخلق العظيم الساكن بين أضلعنا، والأقرب إلينا، فكيف نتجاسر، وندّعي افتراءً الإحاطةَ بخالقه وهو الذى عَزَّ عن الإدراك، وتنزَّه عن الاختلاق في صفات ومواضعات بشريّة من التشبيه والتمثيل والتعطيل.. كما قال الغزاليّ رحمه الله:
قــلْ لمَــنْ يفهــمُ عنِّـي مَـــا أقــولُ    
                              أقْصِــرِ القـولَ فــذا شرحٌ يطـــولُ
أنـتَ لا تعــرفُ إيَّــاكَ ولا تــدرِي  
                               مَــــنْ أنــت ولا كيــف الوصــولُ
كيف تدري من على العرش استوى
                              لا تقل كيف استوى؟ كيف النزول؟
كيــف تَجلَّــى اللهُ أمْ كيــفَ يُــــرَى  
                              فلعَمْـــرِي ليـــسَ ذا إلا فضــــولُ
ولا نعرف مدخلا للولوج إلى هذا العالم وهذا العلم إلا من طريق مَنْ خلقه ونفخ فيه من روحه، وإذا كان لكل صنعة صانع يضع لها التركيب والتوصيف وبرامج العمل والاستمرارية، فصنعة الله أولى بذلك وكتابه خير برهان عليها " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك - 14)، ثم يأتى بعد ذلك أمر النظر والتفكّر والتَّبصر" وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الذاريات -21).
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)" (سورة الشمس)؛ أى ونفس وما استوت به أو معه على اعتبار "ما المصدرية" وهو البدن الذى ركبت فيه وتخللته، وسوَّى: أى قوَّم وعدَّل بلا عوج بعد الخلق والإيجاد، وهو الإبداع على أحسن ما يكون المثال "الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" (سورة الانفطار) ، فإذا كانت كلمة (سوَّى) هنا تعنى: المقارنة فى مدى التماثل والتطابق بين شيئين فهى تعنى تسوية القالب، أو البدن مع النفس المودعة فيه وما يكون بينهما من الانسجام والحلول والتوافق الخُلُقيّ والخِلْقِيّ،  أما إذا كانت مفردة للنفس فقط بعد عملية الخلق فهى غالبا تشرحها الآية التى تليها من سورة الشمس: "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (8)؛ أى سوَّى فيها بين الفجور والتقوى، وبيَّنَ لها حقيقة ما رُكِّب فيها من الضدين المتعادلين وقوة النزوع والميول نحوهما، مع إلهامها كذلك أن تتناغم وتتوافق مع الخير وتطمئن إليه، وتستوحش من الشَّرِّ ولا تستأنس به وتلك هى الفطرة القويمة التى فطر اللهُ الناسَ عليها لا تبديل لِخَلق الله.
وهنا يثير البعض تساؤلات وربما اعتراضات حول ما رُكِّبَ في النفس البشريّة من الفجور؛ فيقولون: وهل تُسألُ النفسُ عمَّا جُبلتْ عليه؟ والجواب: أن ما رُكِّبَ فى النفس الفطرية ليس الشر ولكنه الخير كله، لكنَّما حُبِّبَ إليها زينة الحياة كنوع من الابتلاء ولا يكون للتكليفِ حكمةٌ معتبرةٌ دون أن تتعرضَ النفس لجهد الاختبار، ولا يكون للجزاءِ قيمةٌ أيضا بدونه، فالله لم يفُطِرِ النفس على حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. إلخ ليحول بينها وبينه فتلك هى الرهبانية التى قال فيها: "مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ" (27 – الحديد)، ولا تطيقها النفس البشرية، إنما جعل لكل هذه الشهوات مصارف شرعية ومتنفسات طبيعية محللة لا يحال بين النفس وبينها طالما كانت مشروعة، ومخالفة هذه المصارف الطبيعية والحياد عنها، أو الافتئات عليها هو فى عينه الشرُّ المحض أو الفجور كما سماه القرآن، فالفجور غير مُركَّب فى النفس ولكنه عين الحياد عن المتنفسات التى حددها الشرع.
ثم إن الله قد أقام العقل علي النفس حاكما ومهيمنا ومختارا "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" [البلد:10]، وجعل له عليها قيادا وصوَّر ذلك أبدع تصوير فى كتابه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:40-41]، و(مَنْ)  هنا توحي بأن هناك كيانا خارج النفس متحكم فيها له عليها سلطان يُوزِعُهَا يهتدى بفطرة الإلهام، ويسترشد بعهد الذر"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الأعراف/ 172، 173)، ويحذِّر من كشف الستر الذى صاحب المعصية الأولى "فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ  وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ" (طه -121)، ويبادر إلى التوبة التى أُلْهِمَتْ، والمغفرة التى مُنِحَت، ثم تلاها الهبوط إلى الأرض يصحبه الشقاء والكدح والكبد.
وحين تأتى كلمة (نفس) "نكرة مفردة" فهي للدلالة على جنس النفس وما اشتركت فيه من الصفات "مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ  إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" (لقمان - 28)، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء -1)، فصفة ( الخلق والإعادة، والفجور والتقوى)؛ كلها أوصاف اشتركت فيها النفوس جميعها.. أما حين تأتى كلمة (نفس) في القرآن بصيغة (الجمع) فهى تشير إلى الاختلاف والتنوع فى الوحدة "وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الذاريات -21) وفيها دعوة للتَّبصُر والتفكر فى إبداع الخلق والتكوين الذى جمع النفس والجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر إلا بمفارقة الحياة،  "فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ" (الأنبياء -64)، "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (النمل - 14)، هذه العودة للفطرة السَّويّة التى تفرض نفسها على صاحبها مهما حاول طمسها، وهذا الوازع الداخلي المعروف لدينا بمصطلح "الضمير/ Conscience"، قد يُرَانُ على قلب الإنسان فيتراجع فيه داعي الإيمان وصوت الحق بما أعرض وعاند، لكن تظل حُجَّة الله قائمة عليه من داخله فلا تدع له دفاعا ولا اعتذارا إلا فندته " "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" (القيامة - 14)، ثم يكون الجزاء من جنس العمل بما قدَّم "كَلَّا  بَلْ  رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (المطففين - 14)، "إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ" (النمل - 4).
إن الإسلام استوعب كل ظواهر النفس البشرية وكوامنها فلم يكبت منها شيئ ولم يحل بينها وبين فطرة رُكِّبَتْ فيها إلا أن تكون من الحرام، فأمرها بالزواج والعمل وكسب المال الحلال والسعى إلى امتلاك زمام الحياة من العلوم والمناصب وغيرها لتكون قيادة الحياة فى يد الأمة المؤمنة المهيمنة التى أُنيطت بذلك وليست لغيرها "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ  وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم  مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران - 110)، ولا نعرف كتابا سوى القرآن ولا دينا غير الإسلام جعل النَّفس محور حديثه وبؤرة اهتمامه وفصل لها وأجمل فى كتابه ليعلي داعي الإيمان فيها ويرتقي بأهله خلقا ودينا وروحا مهما أرغد وأزبد المعرضون وانتحلوا لنا من أساليبَ تدعوا إلى الانفلات النفسيّ والأخلاقيّ.. "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" (الزخرف -87).

تعليق عبر الفيس بوك