عبد الله العليان
مرت منذ عدة أيام الذكرى المئوية لوعد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا، لليهود بتأسيس وطن قومي، ثم دولة يهودية بعد قيام الانتداب البريطاني عام 1917، وفي الرسالة التي وجهها بلفور إلى راعي الحركة الصهيونية آنذاك جيمس روتشيلد، وجاء في هذه الرسالة "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها من أجل تسهيل تحقيق هذا الهدف".
وكما يبدو أن الأمر عدا مسبقاً بين الدول الكبرى في ذلك الوقت، فقد باركت الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا هذا الوعد، وتم الإسراع في تحقيقه إلى واقع ملموس من خلال تشجيع الهجرات اليهودية وتسليح المنظمات الصهيونية بالسلام من قبل الوكالة اليهودية التي لعبت هذا الدور، لتحقيق هذا الهدف الذي قامت به الدول الأوروبية، لأسباب سياسية وإستراتيجية، وإن الرؤية المعروفة أن تتخلص أوروبا من اليهود، لكن الهدف الأساسي هو إضعاف الوطن العربي، ومنع قيام دولة عربية كبيرة بعد سقوط الدولة العثماية.
ولم يكن اختيار فلسطين عبثاً، بل هو مخطط سياسي للتفتيت والتجزئة لهذه المنطقة، وهذا ما بدأ بعدما تم خداع الشريف حسين من قبل الفرنسيين والبريطانيين، بإقامة دولة عربية من جبال طوروس إلى سواحل الجزيرة العربية، بعد طرد الأتراك من بعض مناطق فلسطين، وهو ما مهد للانتداب وصدور وعد بلفور، وتقسيم مناطق الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا، وهذا ما كشفته بعد ذلك روسيا بعد قيام الثورة البلشفية عام 1917، فبعد احتلال فلسطين من قبل المملكة المتحدة في العام 1920، تم الاتفاق بين المملكة المتحدة وفرنسا على تحرير صك انتداب دولي من قبل عصبة الأمم، بناءً على خلفية الوعد الذي وضعه آرثر بفلور للوكالة اليهودية عام 1917، وهذا الوعد تم تحقيقه فعليًّا بعد الصك الدولي من عصبة الأمم اعتبرته أول حق لهم، وهو ما سمي بحق إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وهذا المخطط الدولي جاء في غفلة عربية وإسلامية مما رتبت له هذه الدول، وهذا ما أسهم في نجاح هذا المخطط، سواء في تقسيم سايكس/ بيكو، أو في ترتيب الوطن القومي للوكالة اليهودية.
ونتيجة لهذا الوعد والاعتراف بالوطن القومي لهم على أرض غير أرضهم وحقهم في فلسطين، تحركت المؤسسات اليهودية والتجار اليهود، بشراء الكثير من الأراضي من الفلسطينيين في ظل الظروف الصعبة التي سادت أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، وتم تدفق عشرات الألوف من اليهود من كل دول أوروبا، وبتشجيع من بعض الدول الغربية، لأسباب عديدة؛ منها -كما تقول بعض الدراسات- التخلص من اليهود في الغرب، أو زرع هذا الكيان الغاصب في الوطن العربي لجعله يعيش في صراع دائم، وجعل شقه الآسيوي شبه منفصل عن شقه الشمال إفريقي.
وهذا التخطيط وضعه تيودور هرتزل في أوروبا، وحاول مع زعماء الصهيونية استمالة هذه الدول لهذا الوطن، بذكاء شديد، ركز على قضية اضطهاد اليهود، وحقهم في العيش الكريم بعد تشتتهم..إلخ. ولا شك أنهم نجحوا في هذا المخطط، ومن هذه الأهداف التي تسعى إليها أوروبا: إضعاف الدولة العثمانية باعتبارها من الدول التي تشكل خطراً على الغرب بعد الصراعات الطويلة معها في شرق أوروبا، من حيث توسعها سياسيًّا، وقد لعب هرتزل هذا الدور بشكل بارع، وقد اتصل -كما يقول د. محمد عابد الجابري- "بملك إيطاليا محاولاً إقناعه وإغراءه باستعمال اليهود لتحقيق المطامع الاستعمارية في ليبيا، ثم تواصلت محاولات زعماء الصهيونية في إيطاليا فشملت الأوساط الماسونية وزعماء الفاشية هناك. ونشط زعماء الصهيونية في ألمانيا خاصة، وكانت تخوض صراعاً مريراً مع كل من فرنسا وإنجلترا وتعمل جاهدة لمنافستهما فيما وراء البحار".
لا شك أن اليهود نجحوا في تحركاتهم مع كل هذه الدول، وهذا التحرك تم بعقلية خبيثة، وضربوا على وتر رغبات الدول الأوروبية، سواء في تأليبهم على الدولة العثمانية، أو تقربهم من رغباتهم في استعمار تلك المنطقة، من خلال دعمهم في تحقيق هذا الهدف.
الإشكالية الأخلاقية لهذه الدول الاستعمارية، أنها أعطت الحق لمن لا يستحق، على الرغم من دعاوى عصر الأنوار في حقوق الإنسان، والحرية والكرامة للإنسان، وهذا ما يكذبه الواقع في قضايا كثيرة وليست قضية فلسطين فحسب، فقد قام وعد بلفور قهراً على حقوق شعب فلسطين، وقد انتهكت حقوقه وسلبت أرضه، وقتل وسجن هذا الشعب، لمجرد أنه يريد الحرية والكرامة في أرضه السليبة، فوعد بلفور وصمة عار في جبين من أعطى لمن لا يستحق، والغريب أن هذه الدول اعتذرت عن مذابح اليهود في بعض دول أوروبا، لكن لم تقبل أن تعتذر عن هذا الوعد، وما تبعه من مساوئ على حساب شعب ووطن آخر!