"يصطفلوا..!"

الناقد/ عبد الجواد خفاجي - مصر

 

" يصطفلوا ".. هكذا قرأتها مكتوبة على ظهر شاحنة شاهقة بيضاء تمرق أمامى على الطريق السريع، بينما كنت فى سيارة أخرى تسير خلف الشاحنة .. وقع بصري على هذه الكلمة الوحيدة على ظهر الشاحنة.. تأملتها لفترة ثم راح رأسى يتساءل: أهى كلمة أم جملة؟.. ماذا يقصد كاتبها؟.. ما دافعه وراء كتابتها؟ ولماذا اختار لها ظهر الشاحنة، ولم يختر أحد جانبيها؟ بل لماذا كتبها على جسم الشاحنة أساسًا؟ ورحت أفكر فى الأشياء الثلاثة: الكتابة، الكاتب، المكتوب عليه. ولا شك إنها معادلة من ثلاثة أطراف، والتفكير فيها على نحو ما سيؤدى حتمًا إلى فكِّ الشفرة النَّصيّة، والوقوف مِن ثم على مدلول الكلام.
والحقيقة أن ثمة مخزونًا معرفيًا لدى بـ" يصطفلوا" كجملة يقولها العامة عن المتخاصمين، أو المتصارعين عندما يتركونهما وشأنهما، ويعطونهما ظهورهم دون اكتراث قائلين: "يصطفلوا مع بعض".
والحقيقة أن العامة ما حذفوا أداة الرفع (النون) من الفعل اعتباطًا؛ بل لأن الجملة تنطوى على محذوف فى الأساس هو "لام الأمر" ـ كما يسميها النحويون ـ وهي من الجوازم ومن ثم فحذف النون علامة جزم والأصل "يصطفلون" وعلى تقدير المحذوف يكون المراد "ليصطفلوا" وغالبًا ما تعاضد "الفاء" "لام الأمر" فى مثل هذا المقام حيث إن الكلام ينطوى على محذوف آخر هو "لن نتدخل"، أو "لا تتدخلوا بينهما"، والجملة على نحو ما ستكون: "لن نتدخل بينهما، فليصطفلوا".
والحقيقة أنني ربطت بين "يصطفلوا"، و"يصطفوا" التى أعرفها فى الفصحى. و"يصطفون" فى القاموس معناها: يفضلون ويختارون ..لكن لماذا أضاف العامة "اللام" التى جاءت قبل "واو الجماعة"؟
وهنا يجب أن نتوقف قليلاً مع علم الصرف، فأصل الفعل "اصتفى" ثم قلبت تاؤه "طاءً" عملاً بالقاعدة الصرفية التى تقول: إن "تاء" افتعل تقلب طاءً إذا كانت مسبوقة بـ "صاد" ثم إن الفعل معتل الآخر بـ "الياء" وعند إلحاقه بـ "واو الجماعة" يصير: "يصطفيون" والقاعدة الصرفية تستوجب ــ أيضا ــً حذف ياء المضارع المعتل الآخر بالياء إذا أسند إلى واو الجماعة مع ضم ما قبل الياء وعليه تتحول الجملة من "يصطفِيون" إلى "يصطفُون" لكن العامة لم يطبقوا القاعدة الصرفية هذه، ولم يحذفوا الياء بل قلبوها "لامًا" وأبقوا على الكسرة تحت الفاء كما هى، تسهيلًا للنطق وقالوا: "يصطفِلون" المساوية تماماً عندهم لـ"يصطفون" الفصيحة"، وعلية فإن "يصطفلوا " جملة بمعنى: فليختاروا ما يشاءون، وما يتناسب مع ظروفهم من ممكنات لرأب الصدع، أو إنهاء الخلاف.
لكن: مَنْ هؤلاء الذين يقصدهم كاتب الجملة، والممَّثلون فى الكلام بضميرهم (واو الجماعة)؟
الحقيقة أن الخيال الشعبيّ له مذاقه الجميل، وقدراته العالية على التصوير والتصور، وكثيرًا ما قرأنا على الشاحنات عبارات من عينة: " العين صابتنى وربّ العرش نجانى"، لكأن الشاحنة تتكلم وتحكي عن حالها مع الحاسدين.
كاتب العبارة إذن يشخص الشاحنة ويستنطقها، وإن شئنا: يُلْبِسُها قناعًا، وينطق بلسان حالها. وطالما أن الشاحنة تعبر بلسان حالها وتقول: "يصطفلو"، أو" فليصطفلوا"؛ إذن هى تقصد الآخرين من السيارات والشاحنات المتخاصمة على الطريق خلفها، وقد أعطت ظهرها للجميع، وانطلقت تعدو فوق الأسفلت.
 هكذا هى انطلقت تعدو لأنها تمتلك القدرة على السرعة بينما الآخرون خلفها يتسكعون، فهم جميعهم من المتقاعسين وأصحاب الأعطال، أو من المتزاحمين والمتخاصمين على من يمرق قبل مَنْ ومَنْ يفسح لمن... هؤلاء جميعًا متساوون فى العجز وعدم القدرة على الانطلاق، أما أنا بصفتي عملاقة وقادرة على أن أسابق الريح فلأخرج من هذا الصراع الأحمق ولأنطلق وحدي فى طريقي، متفردة بسرعتي وقدراتي العالية، وامتلاكى الطريق، وعلى الجميع خلفي أن "يصطفلوا" كيفما يشاءون وبما يرتضون مع بعضهم وبما يتناسب مع ظروفهم التَّعِسة من ممكنات لإنهاء ورطتهم فوق طريق لم يكونوا أبدًا مؤهلين للمروق فوقه.. الجملة إذن تحمل قدرًا عاليًا من المباهاة، والإشادة بالذات، قيلت بنبرة متفاخرة، وفي مضمار حقيقي للسبق.
أما وقد قرأت هذا النص "يصطفلوا" رغم غرابة دَوَالِّه وتصحيفاتها، وقد قرأته على أنه نوع من الأدب الجميل الذى يحقق صفات غرائبية من خلال الموقف الذى قيل فيه، إلا أننى أتساءل: هل ما قدَّمتُه إلى حدٍ (ما) يُعَدُّ قراءة أدبية، وهل كنت بحاجة (ما) لمنهج نقدي ينتمي إلى نظريّة أدبية لإتمام عملية القراءة، أم إننى بالفعل ممنهج دون أن أدري؟ أم إنني فى الحقيقة لم أكن مسلحًا بغير وعيٍّ بالنص، وأنا أنظرفيه تارة، وتارة أخرى خارجه؟
والحقيقه إننى أسائل دون أن أزاحم بالإجابة، أو الافتاء، فإن كنت ممنهجًا فهذا شرف لا أدَّعيه، وإن لم أكن ممنهجًا فما كنتُ بحاجة إلى منهج، لأننى لن أدَّعي أن ماقلته علمًا، إذ يكفينى القول إن ما قدمته تصور لما أظنه حقيقةً، وإن كنت مالكًا لشيءٍ (ما) فى الحقيقة بجانب وعيي بالنص فهو العناد الذى لايُسَوِّغُ كسلًا محتملًا فى التلقي.

تعليق عبر الفيس بوك