موعد مع الياسمين .. تفصيل بحجم الكون (3)

سهى عبود - سوريا


كانت تلزمني شساعة البحر ومياه لا حدّ لها لكي أبلل الجمر الذي ينهشني من الداخل وأنا أجر القدم تلو القدم.. أحرث الرمل، وقد انطفأ الضوء بدماغي وعجزت عن التفكير..
ما كنت أعلم أنه أهون على المرء خوض كل المعارك مع حاسد إذا حسد.. أية لغة تسعف لرفع معنويات من يدق الحسد بابه؟..
أجر القدم تلو القدم.. وأصلي ليتوقف الزمن، حتى لا أضطر إلى الثورة على أعين تحاصرني، صباح مساء.. عيون تأبى أن تغادر المألوف.. أن تتخطى قضبان الرموش.. أن تتخلص من نظرات الغرور، وتعترف بصيرورة الإنسان وتطوره.. أن تعترف أنّ جذور الشجرة لم تقتصر على الجذع، فقط، بل تمتد حتى للأغصان لتزودها بطاقة النمو والسفر عبر الفضاء بحرية..
هل الجذع يحسد الغصن؟.. رغم أن التربة و الجذور والماء واحد.. وكذا البيئة..
أم إن التعالي وحده، المتحكم في القشرة؟.. يا أولي الألباب..
همس أرواحكم يصلني، وكنت أنتظر معركة تُخرجني من رتابة مُميتة.. معركة بحجم الضجر الذي يقضمني كل همس..
أتبع خطاي، كما الموعد الأول مع القلم.. كانت دقات قلبي تفوق إيقاع كعبي العالي فوق الإسلفت، متوجهة إلى خلوتي مع الأبجدية. وكانت أناقتي تمارس لعبة الإيحاء وصدري يكاد يفتق القميص ليعلن عن نفسه..
تقف عيون أرواحكم لتحييني وهي لا تدري أتصافحني أم تأخذني في أحضانها وألسنتكم تصور المشهد بعدسة عيونكم كمخرج سينمائي فاشل..
حررت قدمي من الحذاء الأسود، وقد سبقني حلمي لذلك، وتمشينا على الرمل يلفنا صمت فصيح.. ليتوقف فجاة أمامي كمن اتخذ قرارا صارما لتوّه، وفي حركة انسيابية قرب صوتي من فمي وصرخ ملء الفضاء:
أيتها الوردة الصامتة،
هل تتصورين ما معنى أن تتعب منك ”مؤسسة الحسد”؟
لعنة حقيقة..
لقد لزمني وقت لكي أضرب بالمؤسسة عرض الحائط وأعيد العداد إلى الصفر وأختار قِبلة أخرى.
لم أُخلق كغيري للمؤسسات، تقتات من فتات الطموحات الصغيرة ومن الحب الكاسد، تتوضأ بالرتابة وتبارك العقم يوميا بنفس راضية، وتتبادل الجشع المقنّع والحسابات الشحيحة..
أنتِ لم تخلقي كأشباه النساء لتخطيط مشاريع كسب سريع ولو بسلخ جلد الآخرين.. قلبكِ الفياض حبا وجمالا أنبل من أن يُحشر مع الصيارفة المخاطة جيوبهم ولا يحملون في دواخلهم غير صحاري قاحلة. مع إنه بوسعكِ تحقيق ربح كثير..
ليس لأن ذلك أصغر من اختياراتك الجميلة فحسب؛ بل لأن روحك الكبيرة، بَريّة، لا ترضى لحريتها بديلا. ولهذا عندما يتضاعف التفكير في الغد من إرهاقك فبكل تأكيد لأنه صراع على حماية حاضرك ومواقعه الكريمة، لذلك: ”فصراعك يمسك الغد من خصيتيه” كما يقول محمود درويش.
أيتها الصامتة، التى أشعلت سيجارتها، وأخذت نفسا طويلا يشبه تنهيدة:
كم أتعبكِ الترحال، وحان الوقت لكي تحطِّي الرِّحال.. وإن كان لا بُدّ من موت فليكن بين أحضان الكتابة..
قلت مرددة، مبررة تخوفي:
- أخاف أن يكون في حسدكم هذا تكفير عن ذنب تحسّون به تجاهي.. أُفضِّلُ أن أكون واضحة معكم: أنتم غير مسؤولين عن اختياراتي ولا أريد أن يكون في علاقتنا جبر خاطر.. فأنا من أعانق التيه والتشرد العاطفيّ.. أنا التي بحثت عن نفسها طويلا فوجدتها في الكتابة..
فأنا من يحتاج حسدكم كطاقة لمواصلة مسيرتي، وعويل ألغام هاته الحروف تدك أبنية أرواحكم المهترئة..
يااااه.. ها أنا أتحرر من موروث ظلَّ ليلا مواربا على نفسي..
فعلا..
افتقدت الصباحات التي تشرق بهمس أصوات طقطقة أناملي على لوحة مفاتيح حاسوبي..
الذي لم أبتاعه بعد..
يتبع..
بس بس:
مادامت عيناك تقرؤني فلا تشكل عندي نميمة حاسد إذا حسد..

تعليق عبر الفيس بوك