من فصولِ مَملَكةِ الشَّرِّ

وديـع أزمـانـو – الدار البيضاء – المغرب

 

فصل: "أبي يزيد البسطامي".. إلى لا أحد ولكل أحد
...........................
هو أبو يزيد طيفور بن عيسى، وهو البسطامي، وهو الشهير بسلطانِ العارفين.
كان أبو يزيد يمشي في ليلِ الخليقةِ فتخرجُ النيرانُ من خطواتهِ، يذوبُ الضبابُ في لامعِ أنفاسهِ، وتنهضُ الشَّمسُ في كسلها الصباحي زافرةً كقلبِ المراهقةْ
قيل: لذاك علاقةٌ بدمهِ المجوسيِّ يشتعلُ مذ غيرةِ النَّارِ في فضاءِ الآلهة
وقيلَ: إنَّهُ الشَّطحُ يُلقي بساطهُ في فتنةِ الذاهلينَ، ويصطفي لمقامهِ غليانَ الماءِ ودمعةَ العاشقةْ
وها نحنُ، ما زلنا نشطحُ كلَّما فاضَ اسمهُ على الشِّفاهِ الحرّى، كلَّما شطحَ نهرٌ حملناهُ في الكفوفِ واتجهنا بها مفتوحةً صوبَ دمنا، وكان ما كانَ، من غرابةٍ تفضحُ وعبارةٍ مأخوذةٍ بلطافةِ الصَّاعقةْ!
........................
"بارقة"
يقالُ عن الشَّطحِ، إنهُ الوجْدُ،
لمَّا يضيقُ عن الماءِ الإناءُ
فتنكسرَ السماءُ
ويجري لسانُ اللهِ من العرشِ إلى النَّعشِ،
نهرا من أحمرَ قانٍ، كحبَّةِ عنبٍ أو كحلمةٍ تنزُّ
ويزهرُ في حديقةِ الرؤيا، البكاءُ
.........................
الآن، وأنا عارٍ مني، عارٍ منكَ، وأنتَ العراءُ الأصيلُ
هل يبصرُ أحدنا الآخرَ،
في مرآةِ ما كان؟!
ليسَ لي، غير أن أفنى وأتحقَّقَ في اللاَّزجِ والهائجِ والمتموِّجِ الرَّجْراجِ، وأُجادلَ
ولكَ البقاءُ، كالغريزةِ في ظلِّ النَّخلةِ، كالذي يبقى من الرَّحمِ جرَّاءَ نُطفةٍ خاسرة
ولي هذا السَّائلُ المنويُّ، يتهشَّمُ ويسيلُ كقماطِ الذي تلقَّفتهُ، وينداحُ في حمَّى الكواكبِ السَّاهرة
ولي مصباحُ السَّائرِ في الظهيرةِ وعنايةِ العتمةِ، لي غلافُ النشيدْ
ولي هذا الرَّطْبُ يرفعُ عنِّي غطائيِ، لأرى
وما اشتهيتُ يوما؛ بصرا من حديدْ
ولي الذي لا يحصلُ، لي الجزءُ إذ يكتملُ، لي الكلُّ إذ ينقُصُ
لي هذا الفراغُ يَقتنصُ
لي الطريدةُ
وقدمٌ في الشِّراكْ
"فسبحاني ما أعظمَ شاني"!
...........................
إني أسمعُ التِّلاوةَ في حلاوة، فإذا بهِ يبطشُ بي فأبطشُ بهِ،
وكان رحيما بي في بطشهِ الرحمانُ
وكنتُ إذ أبطشُ؛ أتجبَّرُ وأقهرُ
كنتُ الإنسانَ.
و"بطشي بهِ أشدُّ من بطشهِ بي"
قلنا؛ إن الأسماءَ تنسخُ الأسماءَ، مثلما تنسخُ الأحوالُ الأحوالَ
ولُذنا باللاَّحقِ يتسامقُ، بالتبادلِ الحُرِّ للأدوارِ، فسقطنا
هو المركوزُ في القلبِ كنقطةِ الباءِ
وأنا الثُّقبُ
والتقلُّبُ
والتغرُّبُ
وأبجديةُ الهباءِ!
..............................
"لامعة"
كلَّما شربتُها،
حضرتِ الكعبةُ إليَّ،
في رداءٍ أسودَ كالمليحةِ في الخِمارِ
وطافت حولي،
كما تطوفُ نجومٌ في أبيضها
حولَ الذاهلِ من قمرٍ،
ينامُ في سريرتي!
............................
خلقتَ الخلقَ ليعرفوكَ، وما عرفني سواكَ
قل لي: كيفَ أداري هذا الجهلَ بكَ، والمعرفةُ تنتشرُ كالعواءِ على ألسنةٍ تلدغُ، وطنينُ الأحشاءِ يتعالى
كوحيٍّ أرضيٍّ وسماؤكَ خرساءُ.
ها أنذا أقفُ في طاقةٍ مكبوتةٍ، وأخطو بالأيدي في انفتاحها بضراوةِ الجوعِ أمسحُ عنه العرقَ والدَّمَ.
والأدعيةُ مثلَ مصعدٍ تعطَّلَ في المسافةِ بين الأرضِ والسَّماء.
ها أنذا، أستجيرُ بسحابةٍ، لتكون ثلاَّجةً/
ربَّما نحتفظُ بها لفائضِ البشريَّة.
وها أنذا أطلبُ من النهرِ؛ أن يجفَّ/
كي لا تفيضَ دماؤنا على الرَّصيف.
هل كان جديرا بكَ أن تضغطَ زرّا يشبهُ "كُنْ"/ لأنزلقَ من رائحةِ العرقِ في إبطيْ عشيقتي،
وأكون وحدي،
في حربكَ عليْ!
يصمتُ كلانا؛
أنا وأنتَ،
والأسودُ العابرُ، شديدُ القسوة.
لا يتحرَّكُ شيءٌ، حتى هذا الجحيم.
والجناحُ الطويلُ للغرابِ السماوي، يعبرنا
دون أن يلتفت!
ينزلقُ البناءُ بعيدا، بينما الجدرانُ تتشبَّتُ بعمودي الفقريْ، النوافذُ تسقطُ في عينيْ، والتلاطمُ يتهادى
كأفعى الخروجِ تُولجُ في زِحامِ الجنَّة، والجنَّةُ خاليةٌ من المؤمنين!
والطَّبلُ يُقرعُ مثلما ينفخُ في الصُّور؛ فتأتي الجماجمُ على أشكالها، الأطرافُ تخاتلُ في بصيصِ الدَّمِ،
وهذهِ الأوطانُ تعلو بأعناقها في سِكِّينةِ المطبخِ الدَّولي.
قلنا؛ نمضي إلى قتامتنا،
فتخبو الأضواءُ وتسقطُ الحُجُبُ
قلنا؛ لنا في جوانبِ المحيطِ، صرخةٌ
ولنا في الصرخةِ، انفتاحُ السرِّ في مطلقِ الضوءِ
لنا المرآةُ تنكسرُ في شهوةِ الرَّائي
لنا غبشُ البدايةِ والجلاءُ
لنا هذا الانسلاخُ
"كما تنسلخُ الحيَّةُ من جلدها"
وبعدهُ،
الفناءُ!

تعليق عبر الفيس بوك