أُمُّهاتُنا.. لا تُحِبُّ الـ"سِيلْفِي"

رشا فاضل - بيروت
 

عن الأمهات المتَّشِحات بخجلهن المهيب أتحدث.. لا عن أمهات "السليكون".. عن أمهات الحنان العظيم الذي أحنى ظهورهن بقلق السنوات العِجَاف التي لم تمطر إلا القلق، والوجع المستديم.. أولئك اللواتي لم يَمُنُّ عليهن زمنُ الأبيض والأسود بـ"اتيكيت المربيّات المعلبات"، و"الحنان المجمّد"، و"صالونات الثرثرة"، و"شبكات التقاطع الاجتماعي" لا التواصل الاجتماعيّ..
أتحدثُ عن: ملكات القلق اللواتي أفنين زمنهن المقدّس بالقلق، والخوف عن الّلوعة في أصواتهن، وهنّ يقتفين أجسادنا بما تيسر من أدعية موشومة في ذاكرتهن المأهولة بالمواويل لا الأغنيات..

عن أمهاتنا الحزينات بالوراثة أكتب..
عن أرواحهن التي تقتفي ظلالنا، ونحن في جغرافيا المنافي.. قلقهن الذي يعبر المحيطات، والبحارعبر حزن المسافات، وهن يسألن عن أحوالنا.. وصحتنا.. وأكلنا، ونومنا، وقهرنا، وخوفنا.... وكل ماتجود به قلوبهن المعتّقة بالحنين.. فتنفض الذاكرة وهم النسيان، ليعلو صوت جدتي التي لاتزال تظلّلني بحنانها، وأدعيتها من ملكوتها السماويّ.. فينهمر صوتها بِلوعة السؤال (كيف حالك)؟.. وتصرّ بانحناءة ظهرها أن تحضر الطعام.. نحن أحفادها وأبناؤها العاجزون عن إقناعها بأننا لم نعد صغارا.. وبأننا قادرون على مواجهة الحياة، والجوع، والخيبات لوحدنا.. كما نزعم..
 ..
عنهن.. أولئك الأمهات المتربعات على عرش الذاكرة أكتب.. عن اللواتي يرفضن أن ينادين بأسمائهن خجلا دون أن يكنّ أمهات لطفل لن يبلغ سن الرشد حتى لو أصبح كهلا.. هن اللواتي نذرن أسماءهن، وقلوبهن للأمومة، وارتدين أسماء أبنائهن هُويّة، وولاءً، وانتماءً، وقلقًا مستديمًا..
أمهاتنا اللواتي لايصلحن (لسيلفياتنا)، وزيفنا المنشور على الصفحات الزرقاء.. وجوههن التي تجانب الملائكة وتخجلن من أن يصبحن (فرجة) للآخرين.. هنّ اللواتي ما تعودن إظهار وجوههن للغرباء.. لايصلحن لشاشات (الفيس بوك) التي لاتليق بعزلتهن المقدسّة.. ولا للتهاني والدموع المستوردة.. فهن سيدات الحقيقة، والحياة بأقسى صدقها وحماقاتها المترامية على سنواتهن العجاف.. أولئك الأمهات صانعات الحياة، والرغيف، وقناديل السماء لايصلحن للمجاملات، والمناقصات، ولايتقنّ إحصاء عدد (اللايكات) ولا تعنيهن جدران أوهامنا الزرقاء المشيّدة في الهواء بعد أن ضاقت بنا الأرض..
جدراننا الواهمة الموهومة التي نرسم عليها كل يوم صورا لاتشبهنا، ونقول كلاما عاريًا من حِبرنا وعاجزًا عن رسم شعث أرواحنا التي تزداد انزواءً واغترابًا كلما مرّ عليها رفاق الشاشات، والشتات..

عن وجوهنا التي لاتشبهنا اكتب..
عن الطفل المختبيء فينا المتشبث بدفء العباءات ورائحة الرغيف وصوت الحنان الذي عَبثًا يبحث عنه في صفحات الزيف..

فأُمُّهاتُنا.. لا يحببن السِيلْفِي

rasha20002099@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك