د. سيف المعمري
من المفارقات الغريبة جدا أن يكون للتعليم في مجتمعنا فلسفة، في الوقت الذي لا تتيح مؤسساته -بمختلف مستوياتها- تدريس الفلسفة؛ فكيف تم بناء فلسفة للتعليم في بلد لا تتدوال فيه كلمة الفلسفة إلا نادراً؟ سؤال لابد أن نطرحه بعد صدور وثيقة فلسفة التعليم، وتقديمها كإطار عمل ملزم لمختلف مؤسسات التعليم، التي بدأ بعضها يشكل اللجان والفرق لإدماجها، لا أعرف كيف سيتم ذلك، دون أن تحظى هذه الفلسفة في البداية بمحاولات للتفسير للكشف عن المعاني الكامنة التي تحملها للتعليم في مرحلة -يمكن وصفها تخفيفا بأنها مرحلة- إعادة النظر في كل شيء من حولنا: الإنسان والحياة والمجتمع والعالم والتراث والتقدم، محاولة معرفة من نحن في هذا العالم.
وإذا كانت الفلسفة تعني حب الحكمة والسعي لبلوغ الحقيقة؛ فمحاولة الفهم هذه يقصد بها الوصول إلى الحكمة التي يمكن أن يوظفها التعليم لبناء أجيال عمانية تتزايد، وتتكدس في الغرف الدراسية المغلقة التي تعزلها عن الواقع بهمومه وإشكالياته، وتفصلها بالتالي عن الحقائق والشواهد، فبعض الحقائق لا يجب أن تدرس، وبعض الحقائق لابد أن تعاد صياغتها، وبعض الحقائق لابد أن يتم الالتفاف حولها؛ وبالتالي يصعب ذلك من مهمة مطاردي الحقيقة التي تصبح أشبه بغزال شارد يرغب كثيرون في اصطياده، لكنهم يخشون العقوبات التي يمكن أن تطالهم من جراء تعرية الحقائق والتشكيك في بعض المسلمات انطلاقا مما تبيحه الفلسفة لهم من توظيف المنطق والتأمل.
نحاول هنا مطاردة الحقيقة حول فلسفة التعليم، متسلحين بهذا المعنى العميق والشائع للفلسفة؛ ولا نعرف إن كُنا قد دخلنا بذلك في مغامرة ربما لا تنال قبول البعض؛ فمهمة الفلسفة هي الكشف عن الحقائق كما هي، وليس كما يراد صناعتها، وإلا فإننا نتفلسف بدون أن نضع فلسفة واضحة وعميقة تبنى على واقع ووضوح، وبالتالي: "تتحول الجهة التي أصدرت الوثيقة" إلى مصاف الفلاسفة فتخط لنا الطريق الذي يمكن أن نمضي فيه لبناء مجتمع عماني جديد قادر على التحول مع التحولات، والتكيف مع المستجدات التي تتوالى أمام عينيه يوما تلو الآخر؛ لذا تصف الوثيقة التي أصدرتها بوصف قد يعيق أي ناقش حولها حيث تقول "تعتبر -أي الوثيقة- قاعدة رصينة للنظام التعليمي بالسلطنة تتميز بطابع الشمول والتكامل والأصالة والمعاصرة والتجديد متضمنة موجهات تحقيق النمو المتتكامل للمتعلم"...بما يقدم له من تعليم وصف بأنه "عالي الجودة.. يتواكب ومتطلبات التنمية المستدامة"، وتواصل المقدمة شحذ شرعية هذه الوثيقة وإضفاء صفات الكمال عليها؛ حيث تكرر أنها بنية وفق عشرة مصادر تصفها "بالموثوقية والمرونة والقابلية للتجديد"، إن مثل هذه الأحكام التي أشبعت بها مقدمة هذه الوثيقة تعطي لنا مؤشرات على أشياء تتنافى مع متطلبات الفلسفة وصفاتها.
فهي تقطع أي نقاش لتوضيح التناقضات التي تكتنف ما تضمنته هذه الفلسفة؛ فعلى سبيل المثال: نجد أن التأكيد على وجود توزان بين الأصالة والمعاصرة كصفة لهذه الفلسفة لا يحظى بأي مرونة؛ فالتاريخ والهوية العمانية والعربية تتراجع في أغلب مؤسسات التعليم العالي بالذات؛ وبالتالي فإن الفلسفة هنا لا تعد مرجعا -كما وصفت في المقدمة- يمكن أن يقود إلى تصويب هذا الوضع دون أن يسندها تشريعا تعليميا يتمثل في قوانين التعليم التي كان يجب أن تظهر قبل الفلسفة وتدعمها، وتكرر مثل هذه التناقضات حول هوية الدولة التي وصفت لاحقا بأنها دولة المؤسسات المدنية" إلا أن في المقدمة كان التركيز على الهوية الدينية التي تتطلب تعزيز متطلبات العقيدة الدينية، لذا فنحن أمام تفلسف على حساب الفلسفة التي تعد رؤية تغييرية استنهاضية لمواجهة إكراهات الواقع وتحديات المستقبل، وليس رؤية لضبط هذه التحولات وسجنها في أطر لا تستطيع الفكاك منها، وإلا لحوكمت كما حدث ذلك مرات عدة في الماضي على مقاعد مجلس الشورى وغيره من المجالس التي جعلت من نفسها وصية حتى على الوثائق والأطر والموجهات.
إن الفلسفة التعليمية هي أولى الثمار الموعودة لتطوير التعليم، تمخضت عن عشرات اللجان والاجتماعات خلال عدة سنوات، ويحاول البعض تقديمها كإنجاز لمرحلة من العمل المضني، وفي ذلك جدل كبير قد لا يتسع المقام هنا للدخول في تفنيده، ولكن ما يعنيني هنا تلك النقطة المهمة التي ضمنت في مقدمتها حول تغيير مسماها من "فلسفة التربية" إلى "فلسفة التعليم"، دون أن يقدم مبررا منهجيا لهذا التغيير، فمهمة الفلسفة تقديم مبررات لمثل هذا الإجراء وغيره مثل: لماذا الاتجاه لتطوير الوثيقة؟ ومن قام بذلك؟ وهل بالفعل حصل تطوير لجوهرها أم أن ما جرى هو إعادة صياغة لذلك الجوهر دون اختلاف في المبادئ والأطر والموجهات والأهداف؟ الإجابات هنا تعد حقائق تعبر عن روح الفلسفة، فهل نحن أمام فلسفة بدون روح، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تبث الروح في تعليم أٌقل ما يمكن أن يوصف به بأنه ينتظر "منقذ"، يعمل على كشف الحقائق التي تعيق وجود فلسفة نهضوية للتعليم، إنه من المؤكد أن فلاسفة الوثيقة لا يودون تربية الطلاب ليكونوا "فلاسفة"، ولا أيضا تعلمهم "الفلسفة"، رغم ما ضمَّنوه فيها من معانٍ عن التفكير، فنحن نريد أن نجعل منهم أي شيء إلا أن يكونوا فلاسفة، أي ينشدون الحقيقة؛ لأن الحقيقة هي أن تقول هذا صواب وهذا خطأ، وأن تتعلم الاستقلالية، وأن تعبر عمَّا يدور في الضمير بمسؤولية وصدق، وأن تناصر الحق والعدالة، وتنشد المساواة، وهذا هو جوهر التعليم المتقدم في العالم، فهل يمكن أن يكون ذلك مقبولاً؟ وأن يعد ضمن إطار تعددية الآراء، وأن ينظر إليه على أنه فضيلة لا تعادلها فضيلة أخرى؟
إن المخاطرة الكبرى هي أن لا نفكر في الأسئلة العميقة ونحن نتداول مفهوم الفلسفة، وما الذي سوف نجنيه من إعداد طلاب تم تلقينهم وترويضهم بصورة تجعلهم غير صالحين إلا للاستغلال من قبل محركي الأحداث في هذا العالم من قوى الإعلام والاقتصاد والدين؟ علينا أن نتفكر في الثمن الكبير والفادح الذي سوف ندفعه لإخفاقنا في إيجاد شباب مفكر جريء مجدد يناقش في كل شيء دون وصاية أو إعاقة أو تحقير، أليست هذه هي الرؤية السامية لأي فلسفة تعليمية، ونحن يحاصرنا الركود في كل الاتجاهات، أليست مؤسسات التعليم وفلسفته هي من تتحمل مسؤولية كبرى عن تكريس ذلك؛ لذا أرى أنه من صالح مؤسسات التعليمية ونخبه في البلد عدم التسرع في محاولة ترجمة الفلسفة قبل التعرف على جوهرها وروحها الجديدة التي لم تتضح لي أنها مختلفة عما ضُمِّن في وثيقة 1978م، و2003، و2009م.