الواقع العربي.. بين أزمة العقل وحكمة الرأي

عبدالله العليان

الواقع العربي الراهن يعيش في أزمات كثيرة وكبيرة، وهذا الواقع بدأ منذ احتلال الكويت عام 1990، ولا يزال يعيش هذا الواقع المتردي بازدياد، ولا نجد أنَّ هناك مراجعات عقلانية حصيفة لتوصيف هذا الواقع، والاستفادة من الأخطاء والسلبيات التي عانت منها الشعوب -قتلا وتدميرا وتراجعاً- على كل المستويات، وكلفت هذه الدول أعباء مادية كبيرة جراء هذه الأخطاء، كان الأولى أن توضع في خدمة هذه البلدان وازدهارها وتقدمها، والإسهام في الرخاء الاجتماعي والتنموي لهذه الشعوب، وهي أحق بهذا الازدهار والتقدم، لكن للأسف لا نزال نكرر الأزمات والتوترات والصراعات، مع أن أوضاعنا لم تعد قادرة على تحمُّل المزيد من المتاعب؛ من حيث تراجع البنية الأساسية والرخاء الذي يخفّف المشكلات والتوترات، وقبل ما يزيد من ثلاثة عقود طرح المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري، ضمن مشروع نقد العقل العربي، أن أزمتنا عقلية ولا بعد من النظر في أزماتنا من خلال نقد العقل العربي، ود. محمد جابر الأنصاري في العديد من دراساته ومؤلفاته، رد أزماتنا إلى الجذور المجتمعية للعرب السيكولوجية، التي تعيد إنتاج هذه الأزمات، ود.فهمي جدعان أيضا رأى أن الأزمة الراهنة تكمن في الفعل وليس العقل، وهو الذي يحرك الوعي والعقل مجرد أداة، وكل هذه الآراء واجهت انتقادات، وأن هذه الأزمات لها الكثير من الأسباب التي نحن فيها، ولا يمكن أن تحدد قضية من القضايا في سبب واحد من الأسباب الذي أدى بنا إلى هذه الأزمات والمشكلات؛ فالبعض يرى أن الخلافة العثمانية عندما كانت التي تحكم الجزء الأكبر من عالمنا العربي، أسهمت في التخلف والتردي، عندما دخلت في حروب مع الغرب، وتركت الوطن العربي رهناً للانقسامات والمشكلات الداخلية، وعندما ضعفت -هذه الدولة- ـ بعد هذه الحروب لحقنا الضعف أيضا، ثم جاء الاستعمار، وكرَّس هذا التخلف، وأسهم في التمزق والتخلف وإثارة النعرات بين الهويَّات في الوطن العربي، وفق شعار "فرِّق تسد"، ومع أن الاستعمار له الكثير من الآثار السلبية عندما اجتاح الوطن العربي، إلا أنه للحق شجّع الدولة التقليدية القائمة آنذاك على إقامة مؤسسات ديمقراطية، مثل: البرلمانات النشطة والتعددية الحزبية، والصحافة الحرة...إلخ، لكن مع هذه المزايا الرائعة، يظل الاستعمار وجها بغيضا لابد من رفضه، فهو يتحكم ويسيِّر حياة هذه الدول ويضع كل السياسات ومنها حتى الثقافية والفكرية، لكن الشعوب رفضت هذا الذل، وطردت هذا الاستعمار من أرضها، وتحقق لها الاستقلال المنشود، وعندما جاءت الدولة القُطرية بعد ذلك، وأدارت القيادات الجديدة هذه الدول ألغت ما هو قائم في مجال الحريات والتعددية السياسية، فلم تحافظ على المؤسسات القائمة التي لو استمرت لما شهدنا الكثير من المغامرات والسلبيات التي عصفت بدول كثيرة، وكانت هذه المؤسسات من البرلمانات الفاعلة وصحافة حرة، من الأمور الايجابية التي تسهم في النقد، وفي تحكيم العقل والعقلانية، ومن خلال مؤسسات ترجع لها المشورة والرأي، قبل اتخاذ القرار الصائب من القرار الخائب.

لذلك؛ لا بد من المراجعات التي تسهم في انتشالنا من هذه الظروف السوداوية القاتمة، والتي أنتجت انقسامات كبيرة في بعض المجتمعات لأسباب عديدة، ناهيك عن الحروب والتوترات القائمة، وعندما نتذكر الفارق الكبير بين موقفنا العربي في حرب أكتوبر، الذي أعاد للأمة الثقة في قدرتها على التحدي والصمود، وصد العدوان وهزيمته، عندما كانت كلمتنا ووقفتنا واحدة، ولم تعش إسرائيل واقعاً مريحاً لوجودها، مثلما هي عليها اليوم من التشتت والتمزق، بل إن إسرائيل تُسهم في تشجيع التفتيت والتقسيم.. أليس هي الكيان الوحيد في هذا العالم الذي أعترف بانفصال كردستان عن الوطن العراقي الأم؟ وهناك محاولات لفتح هذا الباب في دول عديدة في ظل التوترات والصراعات السياسية للأسف، فلذلك الأمة محتاجة إلى مراجعة السياسات والأفكار التي تغيّب منطق الحكمة في التعاطي مع القضايا العالقة فيما بينها، هذا يتآمر على ذاك! وهذا يخطط لإزاحة هذا السياسي! والآخر يدعم التوترات في دولة أخرى! وهذه جلبت الويلات والصراعات لبعضنا البعض، وأسهمت في تراجعنا وتقهقرنا تنمويًّا في مستويات كثيرة، وفي دول عديدة، كانت في عقود ماضية، نحن أفضل منها في جوانب كثيرة، وأصبحت الآن من الدول البارزة في الصناعات الحديثة؛ لأنها أدركت قيمة الاستقرار ودوره في خفض التوترات، مع أنها من أكثر الدول التي تتمتع بكثرة بالهويات المتعددة بين سكانها. من هنا، يجب تحكيم المنطق في مصائر أوطاننا، فليس لأحد النجاة من هذه المشكلات لو بقيت ولم تحل، والقضية ليست قضية عقل وحده، بل قضية وعي وفهم وإدراك، لما ستؤول إليها الأمور، لو بقينا رهن غياب الوعي المنطقي والعقلاني لما نحن فيه من خلافات ونزاعات، والحالة الراهنة للأمة العربية في وضع أقرب ما تحتاج للنجاة، ولعل أدق وصف للإنقاذ، ما قاله المفكر الجزائري مالك نبي منذ ما يزيد على خمسين عاماً؛ إذ يرى أن وضعنا العربي أشبه بمن "يجد نفسه على متن سفينة أو باخرة مع بعض المسافرين حتى لو كانوا على غير دينه في حالة إنقاذ أو في حالة خطر؟ من الطبيعي أنه يجب أن تتحد الجهود كلها، وأن يتطوع الركب كله في سبيل إنقاذ السفينة، وقبل كل مناقشة؛ إذ يجب الاعتناء أولاً بإنقاذ السفينة إذا ما ركزنا جميعا مجهودانا ربما تتدخل رعاية الله وتنجو السفينة، ولكن هذا يتطلب منا أيضاً اتجاهاً نقُوْد به السفينة إلى بر الأمان". وهذا الوصف يتناسب وظروفنا الراهنة، فإنقاذ سفينة الأمة كمحالة قائمة مع سياجها من الانهيار والتفكك، وهو الآن المطلب الأول، ثم تأتي تفاصيل الحلول والقضايا التي تحتاج إلى التحاور والمراجعة والبحث عن المخرج الذي لا يشكل خطراً ولا مأزقاً.