عبيدلي العبيدلي
تتمتع المجتمعات الحية بصفة تميزها عن سواها من نظيراتها الراكدة، بالحيوية التي تمدها بهرمونات القدرة على التفاعل الديناميكي المتحرك نحو الأمام الذي يؤهلها للتقدم. بالمقياس ذاته، وبميزة الاستعداد للتفاعل، تتلقى هذه المجتمعات عوامل التدهور والتراجع، وتصبح ضحية لها، مهما حاولت قيم التقدم مواجهة تلك العوامل ومقومات التصدي لكبح جماح عناصر التراجع، وبذلت قصارى جهودها للتخفيف من سلبياتها. هذه السمة هي التي تفسر حالات الصعود والهبوط التي نشهدها في مثل هذه المجتمعات الحية، وتمدها بحركتها اللوبية متعددة الأبعاد التي تتمخض عنها الظواهر التي نرصدها في حركة تلك المجتمعات.
وبالمقاييس النسبية، وعندما يؤخذ في عين الاعتبار الانتماء الحضاري للمنظومة العربية الإسلامية، ينتسب المجتمع البحريني لفئة المجتمعات الحيوية التي تمتلك مقومات التفاعل الدينامي مع المتغيرات التي عرفها هذا المجتمع خلال مراحل تطوره، خاصة في فترات تاريخه الحديث والمعاصر.
ولربما تُعلِّمنا دروس التاريخ، أن المكونات السياسية لمثل هذه المجتمعات، هي أول الفئات المجتمعية تأثرا بتلك التحولات، وأشدها تفاعلا معها، بفضل طبيعة التداخل المتشابك المعقد الذي يربط بين تلك المكونات والفئات المجتمعية المختلفة.
في هذا الإطار الشامل، ينضوي المشروع الإصلاحي، بما حمله من تحولات نوعية إيجابية مست صلب حركة المجتمع البحريني السياسية، وأتاحت فرصا نجحت في نقل البحرين من واقع يمكن أن يصنف على أنه مرحلة "قانون أمن الدولة"، إلى مرحلة "ميثاق العمل الوطني"، بما فرضته الأولى من "قيم" أمنية صارمة، وسلوكيات قمعية لا محدودة، وجاءت بها الثانية من محاولات بناء ثقة راسخة بين المواطن والدولة.
تلقفت مكونات المجتمع البحريني السياسية هذه النقلة الإصلاحية الجريئة والإيجابية بردود فعل هادفة تمخض عنها، وفي الإطار السياسي المحض، تأسيس الجمعيات السياسية من طرف المعارضة البحرينية، وتشييد منظمات السلطة التشريعية من قبل الدولة.
سارت سفينة تطور المجتمع البحريني تحت سماء صافية، وأبحرت في مياه يمٍّ هادئ، حتى هبت عليها رياح الحراك العربي الذي عصف بالمنطقة العربية، وما تزال ذيوله تمارس دورها في صلب الحركة السياسية العربية.
دون الحاجة للدخول في التفاصيل، لكن محصلة ذلك كان، وعلى المستوى البحريني الصرف، أزمة سياسية متعددة الأوجه، نعيش تداعياتها حتى يومنا الحاضر، كانت محصلتها الرئيسة تراجع دور الجمعيات السياسية المعارضة، وغيابها الفعال عن المساحة الواسعة التي حظيت بها قبل العام 2010م.
وفي مراحل التراجع السياسي في صفوف المعارضة، تبرز من داخل صفوفها، وهم الأشد خطورة، وأكثر تأثير بالمعيار السلبي، ومن خارجها، مجموعات من الفصائل الفردية والمنظمة، التي يمكن توصيف الأكثر بروزا بينها، في الفئات التالية:
* الساخطون؛ وهم الذين يلقون بتبعات الأزمة والتراجع على الجمعيات السياسية وحدها، ويسارعون إلى نهش لحمها، وصب الزيت على النيران التي اشتعلت فيها. ولا يكف هؤلاء، بسبب وبدون سبب، عن العودة إلى ملفات الماضي والنبش فيها من أجل كيل اللوم لتلك الجمعيات، وتحميلها وحدها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البحرين اليوم.
* المتنمرون؛ وهم الذين يشحذون سيوفهم كي ينقضوا على الجمعيات، وكأنهم بذلك يريدون شفاء غليلهم، مغتنمين فرصة التراجع التي أشرنا إليها، باذلين قصارى جهودهم لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من أرباح، ليست بالضرورة مادية، بل ربما سياسية أو مجتمعية.
* الشامتون؛ وهم الفئة التي تتغنَّى بأمجاد تاريخية ذاتية سابقة، ويحلو لها أن تسرد مجموعة من الظواهر السلبية العرضية والاستثنائية التي عرفها سلوك الجمعيات السياسية، كي تبني عليها، وبشكل باطل، مقولاتها التي تروج للسلوك الشامت التي غالبا ما تصيب مقتلا في جسد الجمعيات السياسية.
* المتأستذون؛ وهم الفئة التي تلقي المواعظ والدروس، ناسبة لنفسها أمجادا وهمية، باستحضار النصائح التي وجهتها للجمعيات السياسية، ولم تلق الأذن الصاغية منها. تمارس هذه الفئة دورا طفيليا يعيش على توجيه التهم للآخرين وتطهير الذات من كل ما تعتبره من أخطاء ارتكبتها تلك الجمعيات.
* الناصحون؛ وهم الفئة التي تميز نفسها عن سائر الفئات الأخرى، وتبذل قصارى جهدها للتبشير بما هو صحيح، وتحذر من مغبَّة كل ما هو طالح. وتحاول قدر المستطاع، وضمن الإمكانات المتاحة، وبعيدا عن الأضواء، ودون بحث عن مكسب ذاتي أو شهرة، أن تجنب تلك الجمعيات المزيد من النزيف غير المطلوب، كي تحافظ على استمراريتها، وتتمتع بالمرونة المطلوبة التي تبيح لها الإبحار بسفن العمل السياسي في أشد الأنواء؛ كي تتجاوز أمواج البحور المتلاطمة، في أسوأ الظروف الحالكة، وفي غضون الفترات غير الملائمة. وتتمتع هذه الفئة بنظرة جدلية مخضرمة تستمدها من تجربة سياسية غنية اكتسبتها عبر مراحل تاريخية ريما من الصعب عودتها. تحاول هذه الفئة المنطلقة من خلفية متفائلة توسيع هامش الاستفادة من المشروع الإصلاحي الذي لا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثه من تأثيرات إيجابية نوعية على مسار حركة المجتمع البحريني.
المصيبة الكبرى هنا، والطامة العظمي التي تتمخض عنها، هي سلوك الجمعيات ذاتها، وردة فعلها التي تقترب من العفوية الساذجة، التي أفقدتها الظروف القاسية بوصلة رؤيتها السليمة المطلوبة التي تنظر بها من خلال عين خبيرة قادرة على التمييز بين الغث والسمين، وبين الشحوم والأورام.
لذلك؛ نراها تتخبط بدرجة غير منطقية، ولم تعد مقبولة، تفقدها القدرة على التمييز بين تلك الفئات التي ينضوي البعض منها في صفوف الأصدقاء، وتخرج الآخرين من تلك الفئة.
تحضرني هنا قصيدة المتنبي "واحر قلباه ممن قلبه شبم"؛ ففيها الكثير من الحكم التي ينبغي قراءتها بعين فاحصة كي نستقي منها الدروس. يقول المتنبي.
واحر قلباه ممن قلبه شبم...
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
فوت العدو الذي يمّمته ظفر...
في طيه أسف في طيه نعم
إلى أن يقول:
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت...
لك المهابة ما لا تصنع البهم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي...
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره...
إذا استوت عنده الأنوار والظلم.