قصّة قصيرة من أدب الحرب:

الجُــثَّة

إدريس علي - سوريا


منذُ يومَين بدأتُ أشمُّ رائحةَ عفونةٍ من الطّرفِ الأيمنِ لخاصرتي المَثقوبةِ، في حين راحتْ أظافري المُتكسّرة تنهشُ الحلقةَ المحترقةِ حولَ الثقبِ الواسعِ الذي تركتْهُ رصاصةُ دوشكا، مخلفةً فجوةً تمدُّ أمعائي الغليظةَ بالأوكسجين والهواء النقي.
كنتُ أتلذّذُ بتقشيرِ الطبقةِ التالفةِ من الجرحِ تذكرني بتلذّذِ إفراغِ مثانتي حينَ امتلائها في حياةٍ أخرى عشتُها.
يبدو أنّني أتفسّخ شيئاً فشيئاً، أهو بسببِ الدفءِ المُباغتِ لقسمِ الجّثّثِ المجهولةِ الهويّة في برّادِ المشفى الحكومي؟
مرَّ على وجودي في هذا القسم، القسمُ الأكثرُ فقراً وفاقةً قرابةَ الثلاثةَ والأربعينَ يوماً، لم يسألْ عنّي أحدٌ طوالَ تلكَ الفترةِ الطويلة، كان وزني قد ازدادَ وراحَ “كُرشي” يكبرُ… لا أدري بالضّبطِ لِمَ يحتفظونَ بي كلَّ هذهِ الفترة؟!
حياتي هنا أكثرُ أماناً واستقراراً مما كانت، معظمُ أوقاتي أقضيها معَ جيراني من الجّثّثِ المختلفةِ الألوان والأعمارِ والأصوات، نتبادلُ النكاتَ والضحكات التي تفوحُ منها في أغلبِ الأوقاتِ رائحةَ نهرٍ ميّتٍ، كانت قهقهاتنا تزيدُ أجواءَ القسمِ عفونةً لكنها تضفي عليهِ شيئاً أشبهَ بألوان الرسم.
في الفترةِ الأخيرةِ تعلّمتُ بعضّ المفرداتِ باللغةِ الكُرديّةِ منَ الصّبيّ ذو العينِ المفقوءةِ المدماةِ، الصّبيُّ الذي أُلحقَ بقسمنا منذُ عشرةِ أيامٍ، بعدَ أن قضى أكثرَ من شهرَين متنقّلاً من قسمٍ إلى أخر، لم يتعرّف إليهِ أحد، قد يكونُ ذلكَ نتيجةَ وجههِ المُشوّهِ، أو لأنّ الأحياءَ ما كانوا يفهمون لغتهُ الكُرديّة… ربما؟!
تعلّمتُ من ذاكَ الصّبيّ مفرداتٍ طالما وددتُ تعلُّمها: أز حشتَدكم (أحبّك)، و بِرا (أخي)، وآزادي (الحريّة) و مِشْك (فأر)، وغيرها.
الصبيُّ في الرابعةِ عشرَ من عمره، يملكُ وجهاً مستطيلاً أكلتْ قذيفةٌ ما ـ في مكانٍ ما عاد يتذكّره ـ زاويته العلويّة اليسرى، آخذةً حينَ قضمِها عيناً و جزءاً من الخدّ و الجبهةِ.
لا أعلمُ بالضّبطِ ما الذي شدّني نحوَ هذا الصّبيّ، أحببتُه كابنٍ لي، أنا الذي لم أُرزَق يوماً بطفل، وعلى الرغمِ أنّني لا أفهمُ إلا على الجزءِ اليسيرِ من كلامه، لكنّي أحببتُه، ربّما لأنّه الوحيدُ الذي أوحى لي بفكرةِ الهربِ.
نعم الهرب، الهربُ من سوءِ معاملةِ عمّالِ المشفى وكلماتهم البذيئة المُقزّزة والتي تخدشُ حياء الموتى، الهربُ من عفونة الدماء والروائح الكريهة، الهربُ إلى رائحة الأنثى، تلك الرّائحةُ التي بقيَت عالقةُ تحتَ جلدي حينَ شاءتِ الأقدارُ أن أجتمعَ عن طريقِ الخطأ بجثّةِ امرأةٍ بيضاءَ حدّ الضوءِ، جثةٌ لامرأةٍ في عقدها الثالث وأنا الجثّةُ الأربعينيّةُ اجتمعنا في غرفةٍ باردةٍ مُظلمة عبقَت ذاتَ يومٍ برائحة البابونج والنعناع البريّ والحّبق .

تعليق عبر الفيس بوك