قصة من أدب السجن والحرب

"لونا"

هالة عبادي – سوريا

 

الدرج مهمل كما لو أن أحدًا لا يمر عليه، لون معتم غشى البيت، ورائحة أثاث عتيق فاحت عندما فتح الباب...
-    أتيت من أجل السيدة.
-    المعالج النفسي؟
(فهمت أن هذا ما قيل عني للخادمة)
-    حبذا لو توصليني إليها.
-    أهلاً وسهلاً.
تقدم نحو نهاية الممر حيث الموسيقى، في الصالة عند الواجهة الزجاجية، ستجدها هناك تتأمل من خلف ستارة نصف مفتوحة أشجار الحديقة التي نمت فروعها نحو شرفتها، لا أعلم إن كانت راقتها الليمونات الصفر الناضجات التي تزينها، فلا أحد يعرف فيم تفكر تمضي ساعات النهار كلها على هذه الحال منذ عودتها، ثرثرت الخادمة بكل هذا وهي تقودني إليها.
شعرٌ قصيرٌ جميل بلون طبيعي غير مصبوغ، تجاعيد ارتسمت قبل أوانها لكن بوضوح، وحزنٌ عميقٌ في العينين، رأيته رغم الابتسامة التي استقبلتني بها.
وإلى جوارها زهور يابسة في المزهرية، مغلفات كثيرة لرسائل من الواضح أنها وضعت لتعيد قراءتها، موسيقى عذبة هادئة، وفنجان جفت فيه القهوة عصيٌّ على القراءة ، باختصار ركنٌ يعبق برائحة الذكريات.
تقدمت إليها محيياً أشارت علي بالجلوس...
حاولت بدء أي حديث، ذكرت شيئاً عن مكانٍ مشابهٍ مر في ذاكرتي وأسررت بنفسي (لكنه يضجُّ بالحياة).
اقتربت من المزهرية لأفسح مكاناً لزهوري التي أحضرتها، غضبت وانتفضت، فزعت قطتها التي كانت تغفو عند قدميها وقفزت، أمسكت بساعدي وهزته "لا تعبث بذكرياتي" وانطلقنا من هنا كبداية
-    هذي آخر باقةٍ أهداها لي قبل أن يغادر...
-    وهذه رسائله؟
-    كل ما تبقى منه.
-    تقرئينها
-    ...
وأطلقت تنهيدة عميقة، أدركت كم عانت من ثقلها في صدرها، وتلمست صعوبة أن نتوصل إلى حل، عادت القطة إلى حضنها، مسدت شعرها وتابعت حديثها إلي.
كادت الأمور بيني وبينه أن تصل بنا إلى السعادة، احتاج كل منا أن يفكر بهدوء، اخترت البحر صديقاً اتخذت نزلاً قريباً منه ورحت أبوح له كل مساء...
جميلٌ أن تجد من يقاسمك همومك رغم البعد، في الفرح من السهل جداً أن تجد من يشاركك فيه فهذا الكل يستطيعه، أما الحزن فلا يحمله معك إلا صديقٌ صادقٌ أو حبيب، قريباً كما البحر ومثله كان، في عمقه هدوئه غموضه وأيضاً في تقلبه، ثم صمتت وأشاحت بوجهها...
أعتقد أنه قد صار الوقت الآن لي أنا لوصف لونا، ولعل أجمل ملامحها ابتسامتها، صادقةٌ صافية ودافئة، تظهر لأدنى سبب، وهذا ما جعلها تفوق الكثير من النساء جمالاً.
شعرٌ بلون الكستناء قصيرٌ جداً، تعلن به تحررها، عينان عسليتان فيهما بريقٍ وذكاءٍ نادر ووجهٌ مكتنزٌ يشي بطفولة لم تنته بعد، وغمازاتان كما الدواء حين تظهران، صوتٌ هادئٌ فيه الغنج والدلال، ولربما يمكن اعتبارها طويلة، لكنها بحاجة لعدة كيلو جرامات لتصبح أشد فتنة، لكنها رغم ذلك جميلة بما يكفي لتكون مثيرة.
لا أعرف أي نوع من النقاء بلونا مبتسمةٌ دائماً حتى حين تتكلم، تنزعج كثيراً من الصمت، من الواضح جداً أن الصمت يقلقها، بل يدفعها إلى الجنون دفعاً.
أحببت معها اختبارات الصمت، لكن خشية كشف المزيد من جنونها، قطعت الصمت بابتسامةٍ خفيفة، حينئذٍ خطر لي أن الموسيقى قد تكون فكرةً مناسبة لتهدئتها، مع "لونا" يكفي أن تجرب الموسيقى أي موسيقى كفيلة بتنشيط مشاعر الفرح لديها وخلق أجواءٍ جديدةٍ من المرح وهذا ما جربت.
أعود إلى "لونا"، بسهولة يمكن أن أستدل على مكانها من صوت الموسيقى المنبعثة في ذاك المكان، إنها إن لم تجد الموسيقى فستعامل ضوضاء الشارع كلحن جديد ... لا أذكر أنها تذمرت يوماً، إلا لفقد عزيزٍ أو لغياب، حينها كنت أذكرها بحبيبها الأبدي الذي لا يعرف الغياب.
تحدثنا كثيراً... عن المكتبات، الفن، المنحوتات، وكثيراً جداً عن الكتب، فقد كانت تستهويها الكتب وتعشق القراءة، أو كما كانت تحب أن تقول هي كانت "دودة قراءة" ، لا تسمع بكتابٍ إلا وسارعت إلى اقتنائه وقراءته، وعلى الرغم من هذا هي أكثر المخلوقات عصبيةً حين يتعلق الحديث بـ "عادل" ، الشاب الذي أحبته بصدقٍ وإخلاص لكنه تركها ومضى.
مرهقةٌ ومشتتة انتظرتني لونا ريثما أنهيت ما بين يدي لتبدأ الحديث...
عادل هو أكثر من أحببت، انتظرته طويلاً ولم يعد،  كنت أعتقد أن حياتي بدونه لا معنى لها وأنها بدونه قد تنتهي.
حاولت كثيراً أن أنساه، أن أمحو صوره من ذاكرتي لكنني لم أنجح، كأنما كان حبه يحاول خنق كل حب جديد في حياتي، تعاودني ضحكاته، صوره، كلماته، متداخلة كلها بشكل جنوني وعشوائي، إنه يشغل حيزاً كبيراً من تفكيري.
البقية كانوا يمرون لكنهم بلا أثر يرحلون، وحده "عادل" أجده بيني وبين حبيبي، وأنا أناجيه، وأنا أعتذر له عن بعدي وتقصيري يأخذني من بين يديه عنوة ويلقي بي في غياهب جبٍ عميق.
من الصعب العثور على بقعة في جسدي لم تمرّ عليها يدا عادل العابثتان، معاندةً كل شيءٍ كنت أصدق حبه، مأخوذةً بسحر كلماته كنت مستسلمةً له، حتى لم أعد أجد طائلاً من الابتعاد عنه، كنت أجده بيني وبين نفسي، في سريري، مرآتي، وحتى في حمامي، وأظن أني لن أبرأ يوماً منه، ولن أستطيع أبداً التخلي عنه.
أحتاجه، أحتاج لحظات جنوني معه، لكني مجرد قصة حب عابرة بالنسبة له...
مع حبيبي بدأت أتعافى منه وهذه أولى هدايا حبيبي، هكذا تحدثت لونا، لم أتحدث كثيراً كنت أنتظر أن أسمع منها ما طرأ على الأوضاع ...
 "فاطمة" و"عادل" يخنقها التفكير بهما... وبطبيعة الحال كانت تؤلمني دموعها التي هطلت سخيةً، استمر حديثنا على هذا المنوال وقتاً طويلاً، هي تحكي وأنا أستمع بصمت، كنت أريدها أن تفصح عن كل ما تشعر به، أن تتخلص منها كلها وأنا معها، كنت أسمعها وفي داخلي أبكي وأبكي وأبكي لأني كنت مشغوفاً بها... موجعٌ حقاً أن أفكر بها  وهي تفكر به على هذا النحو.
بدت عجيبة وغير مفهومة، وكانت انفعالاتها غير مبررة واستفزازية، لو كنت عرفت تعلقها به إلى هذا الحد من قبل، على الأقل لما كنت قامرت، واخترت طريقاً كان علي فيه أن أحقق المعجزات.
كانت علاقة مغرقة بالخيال، وكانت مع هذا تثير أكثر عواطفها حسيةً (الدموع)، كانت رسائلها شديدة العاطفية، تشي بوضوح بعمق حبها له ولهذا لم أفهم سبب أنه لم يرغب في العودة لها، كما لم يعد يفكر برؤيتها ثانيةً، كأنما انتابه عندما قطعها شعور مذهل بالتحرر.
هو يفكر فقط كيف ينطلق ومن أين يبدأ، يعشق وحدته التي تثير اهتمام كثير من النساء وإعجابهن به، فصار يدَّعي تشاغله بالبحث في تاريخ الأديان وكان نجاحه فيه يدعمه، كما نجاحه في عمله.
أرهقت قلبها وهي تعمل كل شيء لأجل سعادته وبهجته، فيما كان مشغولاً بجماله وصفائه وكل الصفات التي تؤكد معناه، لقد أسرف في الاعتقاد بسر الحياة الأعظم... أن النساء لا يبحثن عن الرجل الأوسم؛ بل عمن عاشر الحسناوات... أحبها كما يحب المثقفون، وأراد لعلاقته بها أن تنتهي كعلاقة نحات بتمثاله أو كاتب بروايته، فيما كانت تصر أن تبقى بطلة كل رواية له ومحور كل بحث، وها هي في نضالها ضد النسيان تستعيد ذكراه كصورة كاريكاتورية، مدركة أن التخفي هو شعور بالذنب، وهو بداية الهزيمة، فلم تعد تأسف كثيراً عليه، بل كانت تعزي نفسها بتذكر وجهه الدميم، وكانت على ثقة من أنه لا ينساها رغم ما يصلها من أخبار نجاحاته فيطيب خاطرها.
 سألتها فجأة أتثقين بي؟ ... أومأت برأسها.
 اكتبي ... كل ما عليك أن تكتبي، أن تستغلي كل موهبة لديك ، لتخرجي ما فيك من طاقة للتحرر من هذا الحب .
وحده حب والدها المغروس بقلبها كما الياسمين، لم يعرف الانهزام يوماً، عاد بيديه الطويلتين لينتشلها من عمق اليأس، ويوقد في صدرها سراج الأمل، ويفيض بنوره ليضيء عتمة لياليها.
تذكرت والدها الذي استبشر بها كأنثى، على خلاف ما درج عليه مجتمعه، الذي أخذها معه لتسبح في النهر، الذي قصَّ عليها حكايا الأميرات وعلمها أن الكذب جريمة لا تغتفر، الذي كان يرى النساء المجبولات على العطاء كالأرض الخصبة ولأنه يرى التي ربَّته امرأة عظيمة قدَّسَ إكراماً لها كل أنثى ولم يعبث يوماً بقلب امرأة.
قاطعتني بنبرة حزينة أتذكر أبي؟ أنت تشبه أبي وأنا الآن أشتاق أبي، كان صلباً قوياً وكان حكيماً، كان دائماً يقول: "لكل منا رسالةٌ، ولن يموت قبل أن يؤدي رسالته".
حينئذٍ خطر ببالي شيءٌ قلت قد يفيد، تركت المقعد وأخذت بيدها إلى النافذة المطلة على الحديقة الخلفية للبناء، رفعت الستائر، أعلم استحالة أن ينال المنظر رضاها، لا ألوان ولا نور ولا أيَّة ملامح لترتيب أو نظافة، صمتت خشية كشف ما هو أسوأ... بادرتها كذلك حال قلبك، وحده حب الله فيه النجاة لك.
بابتسامةٍ خفيفة ردت علي، وبرقةٍ تمتمت لا إله إلا الله وحده... كان التسبيح أشبه بالموسيقى بين شفتيها، وعوضاً عن الاستئذان جلست من جديد محدقاً فيها، لا أعرف كم أمضيت من الوقت كذلك، ولم يبدُ لي أني أزعجها بوجودي وهي تناجي حبيبها.
فتحت نافذة قلبها للنور، فأضاء كل الألوان التي كانت قبل قليل منطفئة، و لمع في عينيها بريقُ شيءٍ جديد.
كنت أراقبها وهي تزيح ظلاله التي أغرقت قلبها في العتمة، وأرى درجات الضوء تختلف فيه حتى بات النور مبهراً، شعرت بنشاط الهواء حين رأيت تبدل كل ما فيها.
لم يعد يعنيني شيءٌ وقد وصلت إلى التردد الموافق لموجات قلبها، رأيت شعرها وهو بالعرق يتبلل، وبدون أن أصدر ما يقطع سكينتها ، غادرت الغرفة بصمت.
في المساء عاودني الحنين إلى "لونا"، رغم أن الوقت الذي فصلنا كان قصيراً جداً، وضعت المؤشر عند صفحة الكتاب الذي كنت أقرأه، وعدت إليها، أحست بالاستغراب وتساءلت...
طلبت إليها أن تحدثني عن عودتها مجدداً إلى الحياة، عن رحلتها مع الله، كنت أريد من يشاركني في مخاوفي من غضبه عندما أتكلم عن ذكريات ومشاعر الماضي، عن عذابات قلبي وموته عن الأحاسيس التي بدأت معه تولد من جديد.
كانت امرأةٌ مختلفة في كل شيء، تحمل المعاني على كلمات مميزة لتجعل لها وقع مختلف، مدهشٌ كل ما فيها، لم يكن هناك من يمكن أن يفهم أفكارها، أو أن يجاريها، حتى مشاعرها تفيض بطريقةٍ يعجز الآخرون عن إدراك أسبابها أو أبعادها، أو حتى من أين تأتي.
كل ما فيها يحرك الفكر والمشاعر، ويتحدى الرجال والنساء أن يتحملوها، أو حتى يجاروها في قوتها، فيحرك ذلك غيرتهم ويقض مضجعهم، هذا يفسر كثرة المغرمين بها وكثرة ما عانت من مغامرات الإعجاب والانجذاب وفشل ما كانت تظنه الحب.
كانت كمن تتحدث عن قوةٍ خفية، ساحرٍ يشدها بسحره، يتلاعب بأحوالها، تكلمه فينسكب سحره بداخلها، كانت تنتظر صوته لتطمئن يطول بها الصمت وهي تنصت، جميلةٌ هي في صمتها. فجأةً بدأت تبكي، لم أمنعها، كنت أراقب جمالها، نادرٌ أن تجد مثلها، جميلةٌ حتى في الحزن.
ذكرتها بأنه يحبها أضعاف ما تحبه، و أن لديه أضعاف قدرتها على الحب.
كانت معه تريد السلام، رحلة التغير الحقيقي هل بدأت أم أنها تبدأها الآن...
استبعدت كل السلبيات من حياتها، وتخيلت نفسها بالمكان الذي تحب، أغمضت عينيها واستحضرت أجمل لحظات عمرها، كانت تحاول أن تجده، للأسف هي بقوتها النادرة وشخصيتها البناءة، لم تعرف إلا سعادةً وحيدة اسمها عادل.
كل ما هو جميل فيها استغله ضدها، واستقوى به عليها، وبالرغم من هذا لم تتغير، لأنه رغم كل شيء كان أكبر حب في حياتها، ولأنه تعمد ألا يعاملها بقسوة.
كان يعتذر لها بلباقة، ويذكرها بمكانتها وبقائها في قلبه كذكرى جميلة، لكنه لا يستطيع أن يكون لها.
الآن أعرف تماماً أن حبي لها منزهٌ عن أي غرض شخصي، هو حب من تريد أن تدله إلى الطريق، وكنت ملزماً بإكرامها وتقديرها ومعاملتها على النحو الذي تستحق، وبما تحتاجه من حنان وحب، هي الآن من روح الله ... هكذا فقط صرت أراها، وكانت هذه نقطة خطيرة لأنني كنت بأغرب وضع وأغرب مشاعر، كانت تجذبني لأنها مختلفة عن كل النساء لكني لا أحبها كما تُحب النساء.
كنت أراها من خلال قيمتها العالية كإنسانة، وهنا كان التحدي الأكبر، كان من واجبي أن أزرع حب الله في قلبها، ليكون هو الأكبر، فلا يكون لغيره نصيباً في قلبها، وأن يكون حبها لي هو مجرد شكر وامتنان لله، لأني أحد أدواته أرسلها لها، لتعافيها من الألم والماضي من الاحتياج لعادل،  لتنقذها من استهتارها بقيمة نفسها وفنها وأدبها، لأعرفها بالخير العظيم بأعلى درجات الإنسانية، لأخلصها من كل ما فيها من فضول العلماء وحساسية الفنانين وطفولة المبدعين،  كان علي أن أنقل لها بوعي، أن عادل ليس إلا شاب طائش تافه يبحث عن الملذات السريعة وأن الله يمهله ليتوب، وأن أعيدها لأجمل ما كان فيها أن تسامح وتنسى.
أردت منها أن تتعلم أن حب الله كشجرة التوت، ثماره حلوة وكلما ازداد عمراً ضربت جذوره في القلب أكثر، لكني لفرط حبي لها كنت أفعل مثلها، أتظاهر بالنسيان وأدور حولها، ثم على سبيل التحبب أنادي اسمه، وعلى نحو من البراءة تقترب فأضمها، ليتني عرفتها قبل أن تتعرف لأي أحد.
بدأت ترسل لي تباعاً كتاباتها كنت منبهراً بروعة وعمق معانيها، صارت عندي ككاتبة أغلى من أن تقدر بثمن.
حدثتني عن عبد الله، كان هو الآخر يرى فيها مشروع كاتبة مبدعة، من هنا كانت البداية، ثم راح يتودد إليها، كانت ترفض خلط مشاعرها بأحاديث الكتابة، ولأن الشك بعلاقته بها بدأ يساورها، قررت البعد.
إنها بدافع من نقائها تمنح ثقتها بسرعة لمحدثيها، وقد يسهل خداعها من قبل البعض، كانت كزهرة رقيقة والكل يحاول تلمسها، لكنها أخيراً التفتت إلى نفسها ولولا هذا لتفتت.
لم أفهم كيف هربت من منزلها، وذهبت مجدداً إلى عادل، لم يستقبلها كما تمنت، أمضت أسبوعاً عنده وهو يتجاهلها تماماً، لم يعرفها بأهله، ولم يعرفهم بها فعادت.
بغضبٍ استقبلتها أمها، وحبسها أبوها في غرفتها، لتمضي باكيةً أياماً بلياليها، مر عادل مع صديق لهما، حياها من النافذة ثم دخل بيت أهلها ليأخذها معه في عرس خيالي، زرع الممر إلى صالة العرس بباقات الورد، وأحاط بها ساحة الرقص التي أخذها إليها، ثم كما البرق انتقل بها إلى فيلا عَمَّراها معاً، كل تلك التفاصيل الجميلة عاشتها معه في ثوانٍ، فهذا كل ما يستطيعه النائم في حلم.
كانت تحدثني عنه وأنا غارق في الذهول، كنت أتصور أنها أدركت أنه مجرد طفل يلهو، وأنه لم يعرف بعد معنى أن يحب الرجل.
بدت كمن تظن أنه يلعب معها الغميضة فلطالما لعباها معاً ولم تكن تجيد الاختباء، كانت ضحكتها تفضحها بمجرد أن تدنو خطواته منها، أما هو فكان دائماً كما هو الآن يتقن جيداً مهارات التخفي والاختباء.
أخيراً اختفت مزاياها كلها الموهبة والذكاء والجمال والقوة والهمة، وجلست أمام المرآة تتأمل تفاصيل غيابه في وجهها، كانت عيناها تقول لا تأملي في حبه، لا تحلمي... لا ترقبيه، وبدمعة مكسورة أمسكت المقص وقصت شعرها قصيراً جداً، لم يكن هذا رغبةً منها بتسريحة جديدة، لكنها أرادت قص الوجع الذي تهزه، كلما لامست شعرها بأصابعها كما كان بأصابعه يفعل كل ليلة.
اتصلت بي...
هذه المرة أخبرتني عن جوني... كان يحكي معها على فترات ثم يتراجع...
هنا تسمع لحناً مختلفاً جميلاً وقصيراً، يحكي عن الشعر والموسيقى، في الحقيقة هو لا يحكي هو يعزف، اعترف لي باستلطافه لم يكن استلطافاً كان عميقاً حتى لكأنه حب... هكذا تحدثت عنه تركتها على طبيعتها لتتحدث وأنا بصبرٍ أنصت، أنتظر نهايةً تليق بـ"لونا"، بعض الأصدقاء يفرض أخطاءه ويطالبك بالتأقلم معها ولونا كذلك.
  "لونا" لم تعد مجرد حالة علاجية، بل صارت أكثر من صديقة، تغاضيت لها عن أشياء عدة لكنها بالغت في حديثها عنه وكان مما سمعت أنه قال لها: " جميلٌ أن نرى تلبك امرأةٍ بأفكارها "أزعجني حضوره المتسلط في حياتها، وكان يجب أن أتصرف لكني لم أملك الحق في أن أتصرف إنها حياتها هي وحدها ، استسلمت ثانيةً لوقع كلماتها تحدثني عنه...
"لونا" و"جوني" من طبيعة متشابهة وإن اختلف جنساهما وديانتاهما كان يقول لها كما قال ايكزوبيري  "نحن كطائر اللقلق ولدنا بأجنحة أضخم من أجسامنا" وكانت تقول لكنها تناسب أحلامنا فيقول: "تزيد التعاسة بقدر اتساع خيالنا" لم تكن تريد أن تغوص عميقاً مع كلماته...
 لم يشعر يوماً بحاجز يمنعها منه أستأذنها مرة أن يتغزل بعينيها بكلمات أنسي الحاج "صن يا شرر الفجر ليل عينيها لي" ضحكت كانت دائماً تؤنسها كلماته قريبان كانا كأنما أخوين بل أكثر ...
سألته أن يحكي لها كعادته عن الكتابة عن الموسيقى وعن الشعر أو كما كانت تطلب بالحرف اعزف لي...
فسألها أن تحكي عن السجن... أجابت : السجن أن تعطي قلبك لشخص واحد.
سألها أن تصف له السجن من الداخل... قالت: ثمة سجن أفكر أن أدخله وأعدك ألا أطلب الخروج منه أبداً أتراك تعرفه؟
صِفِيه بدقة أكثر... ترددت قليلاً ثم قالت: خلف قضبان قفص صدرك أريد أن يكون سجني وأتمنى أن يضيع بعدها المفتاح...
فاجأها استنكاره "تسرعك يحجب تفكيرك... أريد وصفاً لسجن حقيقي" كنت أعلم مالم تعلمه ولم أستطع منذ البداية أن أخبرها به ولم يبد أنه يزعجها (أنه ينظر لها ككاتبة فقط) تابعت متجاهلة ما كان من دموعٍ مسكوبةٍ في داخلها... أكتب لك الآن عن الزنزانة:
تك تك تك... صوت صنبورٍ متروك
الصوت الذي كان يقطع سكون وحدتي ويربك أفكاري...
وأنا الذي كان علي أن أتذكر كل حرفٍ نطقت به في التحقيق، هنا فقط تدرك خطورة الكلمات ويكون واجباً عليك أن تحتفظ بالكلمات حية دوماً كما نطقتها أول مرة حيث لا ورقة لديك للتسجيل ولا قلم.
هنا تتعرف إلى ما كانوا يسمونهم "ناكر ونكير" ، "تحرك بسرعة مانك بتمشاية يا كلب" نعم لم أكن في نظرهم أكثر من كلب، وإلا لما وضعوا لي الطعام في ذاك الصحن القذر، ثم دفعوا به من تحت الباب، لكزني يستحث خطواتي للتعجيل لا يستطيع إدراك حجم الألم في ساقي اللتين لم أفردهما منذ ليالي في زنزانتي تلك، هو لا يدخل تلك الزنزانة ليعرف كيف يمكن لمساحتها الصغيرة أن تسلبك قدرتك على أن  تفرد رجليك، كيف تجعلهما عاجزتين حتى عن رفعك حين تقف.
لكزة أخرى آه يا سيدي كيف أشرح لك الألم الذي تسببه في ذراعي المتخشبتين تلك الجدران الأربعة اللعينة ماذا فعلت بي وكم سيطول بها مكوثي.
في الليلة الأولى كنت لازلت احتفظ ببقايا دفء هادىء في الليلة التالية كان غليان الدم في عروقي كافياً ليدفئني بعدها تحولت إلى قطعة جليد.
هنا يحلو لهم ابتكار أساليب جديدة في التعذيب
جاءوا بأختي لتزورني اقتادوني إليها عارياً وأمامها اقترب أحدهم بعضوه من مؤخرتي.
أغمي عليها واشتعل شيء ما بجوفي.
يبدو أني بدأت آلف المكان هنا وأعرف التوقيت من قسوة وقع خطواتهم من غناء جيراني الباكي وصرير المفاتيح
اليوم اقتادوا جاري للتعذيب يتعمدون أن يسمعوني صوته، صوت توجعه يشي بما يفعلونه به، و يعدني بما ينتظرني إن لم اعترف لهم كما يريدون.
لا فكرة عندي عما يسألون عنه ولا تصور لدي عما ستؤول إليه الأمور وحيد أنا يائس ومهزوم
أسندت رأسي إلى الجدار - وسادتي الجديدة - استجدي بعض الراحة برودته كانت تنبه كل أعصابي .
لعل الوقوف قليلاً يكون أكثر رحمة، ها أنا أجربه قصيراً و طويلاً لكنه لا يجدي نفعاً
يفتح حارس الباب و يصرخ بعصبية:
- عشر دقائق فقط لقضاء حاجتك.
- لكن لست بحاجة الآن لفعل هذا.
 إذا ستفعلها تحتك يغلق الباب يقولها بذات العصبية وينصرف
يسمم البول المحبوس في مثانتي أفكاري....
موقفها جعلني أتألم كثيراً... ماذا لو جنبتها إحساس كهذا؟ هل كانت لتقتنع لو حذرتها ؟
مع علي من قبل أيضاً كانت تتبادل أسماء شعراء كانت تراهم يستحقون المتابعة أزعجه أن اسمه لم يتصدر القائمة فقرر الخصام لم تجد طريقة معه للخروج بحل مناسب كانت تخبرني بذلك كله كأنها تريد رأيي وكنت مندهشاً من استمرارها، من قدرتها على تحمل الضغط والتعب، لكني آمنت دائماً أنها ذكية وإن كان عنادها يؤخر استجابتها، إلا أنها في النهاية تستجيب للمنطق وتعرف كيف تطوي بسرعة صفحة الماضي ولكم أسعدني أنها أخيراً فعلت.
 علاقتي أنا أحمد" المعالج " بـ"لونا" كعلاقة أي فنان بعمله يتركه بمجرد أن يراه قد اكتمل... وقد تركتها فعلاً، لكنها هذه المرة لم تظهر أي شكوى أو تأسي فقد تركتها بقلب ثابت يعرف كيف يواجه الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك