وطن الشموخ

حاتم الطائي

من حصن الشموخ تُشرق دومًا شموسُ الأملِ والعزَّة والسُّؤدد، وتبِيْنُ مَسَاقات المجد، وتتشكَّل ملامحُ مُستقبلِ الوطن بعملٍ مؤسَّسيٍّ وإستراتيجيٍّ مدروس ومُخطَّط له.. ومنه أيضًا يترسَّخ الازدهار معنًى لا لفظًا، ويُترجَم التقدُّم عملاً لا قولاً، بإرادةٍ قويةٍ وتخطيطٍ يحتكمُ للاتزان والعقلانية، والمواءمات الواقعية وتحقيق الممكِن.. خُطواتُ بناءٍ تتجذَّر عميقًا، وتستمدُّ أبعادَها وحيويَّتها من مفهوم التنمية الخلَّاقة، وإعلاء صُروح النهضَة، بما يؤسِّس لاستقرار دولة المؤسَّسات وديمومتها، في خضم مشهدٍ عربيٍّ وعالميٍّ مليء بالغُمُوض وعدم الاستقرار.

وفي سياق كهذا وحسب، يُمكن قراءة أبعاد اجتماع مجلس الوزراء الأخير، الذي تفضَّل بترؤسه مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- على أرض منح الطيبة وتحت سقف الشموخ في وطن الشموخ؛ كاجتماعٍ تتجاوز أهميته ومكانته في هذا التوقيت حدودَ الزمان والمكان؛ سواءً الإطلالة الأبوية لجلالته والمفعَمَة بالابتسامات وجميل المُحَيا الباعث على الأملِ والاطمئنان، أو بتوجيهاتٍ تُسدى لحكومةٍ رشيدةٍ توجِّهها لما فيه خير الوطن وأبنائه، فضلا عن حرص سامٍ كبير على متابعة مُستجدات التنمية بمُختلف مجالاتها، وتدارُس احتياجات دَعْمِها وتعزيزِ أركانها، كي تستمر مسيرة العطاء على أفضل مستوى مُمكن.

وهو ما ترجمه ارتياحٌ أبداه المقام السامي لما تبذله الحكومة على المستوى المحلي من جهود للتعاطي مع الأوضاع الاقتصادية، والذي كانت ثمرته تحقيق معدلات مناسبة من النمو الاقتصادي في المشاريع الاستثمارية، مع الحفاظ على الخدمات المقدَّمة للمواطنين. وتوجيه جلالته مُجددًا بضرورة مواصلة الاهتمام بكل ما يصب في مصلحة الوطن وأبنائه الأوفياء، ويؤمِّن للجميع دوام الخير والنماء. كما لم تَغب عينُ رعايته -أيَّده الله- عن استعراض التطورات التي تشهدها الساحتان الإقليمية والدولية؛ إذ تفضل جلالته فأكد على دعم السلطنة لكافة الجهود المبذولة من أجل إحلال السلام والاستقرار لدول المنطقة لكي تواصل مسيرتها نحو تحقيق المزيد من التآلف والتقدم.

إنَّ هذا النهجَ القابوسي، الذي يُمثل فيه حضرة صاحب الجلالة رمزية "رجل الدولة"، هو في حقيقته مدرسة عريقة في فلسفة الحُكم والسياسة؛ فأنْ تُشيِّد بُنيانَ دولة مدنيةٍ عصريةٍ بجذور تاريخية ضاربة في أعماق الزمن، وتحفظ عليها استقرارها وديمومة نهوضها، وسط عالم تتقاذفه الأزمات والمحن، هو الشُّموخ الذي يَصْنَع الإنجاز ويُوْجِد الفارق؛ فما تحقق لنا على أرض هذا الوطن من مكتسبات اتسمت بالشمولية والتنوع، هو ثمار يانعة لفكر استشرافي حصيف، ينأى بعُمان وطنًا ومواطنين عن المهالك، ويربأ بهم عن مسالك الفتن والشرور.

ولقد كُنتُ وأبناء جيلي شهودًا على بداية نهضِتنا المباركة في مَطلع سبعينيات القرن الماضي، وعشنا -ونحن فتية صِغار- بدايات تشكُّل الدولة المدنية، وترعرعنا في أحضان الحلم العُماني وهو يكبر بتطلعاتنا عامًا تلو الآخر. وكما كانت سنوات النهضة الأولى مفعمة بالأمل والحماس، نعيش اليوم مرحلةً رديفةً لإعلاءِ بنيان الدولة، بسماتٍ رُوحيَّة مُشتركة، وتشابهٍ كبيرٍ في التوجه الجماعي لبناء عُمان برُوْح وثَّابة للتغيير نحو الأفضل، مع بقاء وحدة الهدف كما هي: بناء دولة مدنية عصرية؛ تقود الخطى نحو التقدم والازدهار الحضاري.

إنها مُعادلة بناء الوطن، تتجلَّى في بصيرةٍ ساميةٍ ينتظم في كنفها العمل التنموي.. بصيرةٌ اخترقتْ حُجُبَ الزمن على مدى سبعة وأربعين عامًا؛ لترسمَ لعُمَان صُوْرَتها المشرقة: مدارس ومؤسسات تعليم لمحاربة الجهل وإضاءة مَشَاعل المعْرِفة، ومستشفيات تقدم العلاج والخدمات للمواطن والمقيمين في كل مكان؛ وبنية أساسية وطُرق، ومَوَانئ، ومطارات، ونهضة عمرانية وتنموية في كافة القطاعات.

بصيرةٌ سامية.. ظلت ولا تزال حاضرة طوال سنوات نهضتنا المباركة، تعظِّم المردودَ التنمويَّ في كلِّ المجالات، وتهيِّئ الظروفَ المواتية للتغلُّب على التحديات والصُّعوبات؛ لتمضي سفينة الوطن، وتشق طريقها بثقة نحو بر الرقي والازدهار، وآفاق أوسع، برُؤية ثاقبة، وفكر إستراتيجي يقومُ على قراءة صحيحة للواقع بمكوِّناته، دون أن تغفل مُعطيات التاريخ بأبعاده، مع التركيز على المستقبل بإشراقاته.

بصيرةٌ سامية.. تُترجم "فن الممكن" بأسلوب مُغاير لما هو سائد؛ تأخذ مَدَاها في المستقبل كممارسة إيجابية، ونهج راقٍ لتعزيز المُنجز في الداخل، وتكرِّس مكانة عُمان كدولة راعية للسلام ورائدة للتسامح في العالم.

من أجل ذلك.. لم نكن نحن العُمانيين وَحْدَنا من توجَّهت أنظارهم وأفئدتهم إلى حصن الشموخ للاستبشار بإطلالة جلالته، والاستقاء من مَعِين حكمته وبصيرته النافذة، بل أكاد أجزم بأنَّ العالم أجمع كان يُشاطرنا الترقُّب والتفاعل ذاته؛ لما عُهِد عن خطابات وتوجيهات المقام السامي من إسهام حقيقيٍّ يبتعد عن الشعارات الرنانة، لتدعيم أركان الاستقرار ليس داخليًّا وإقليميًّا فحسب، وإنما استقرار عابر للحدود، جريًا على نهج معهود لسياسة متزنة مُلهمها قائدٌ حكيم.. ولتبقى السياسة في الأخير هي فن الممكن.