الحاجة إلى قرار إستراتيجي

عبيدلي العبيدلي

تعم المنطقة العربية اليوم ظاهرة في غاية الخطورة، مصدر هذه الخطورة أن معظم النقاشات التي تخوضها مجموعات صنع القرار العربي؛ سواء في الإطار الضيق التكتيكي، عندما يتعلق الأمر بحل مشكلة مثل وضع حد لخلافات حدودية بين دولتين عربيتين، أو ذاك الذي يدخل في نطاق الواسع الإستراتيجي. مقتل تلك النقاشات أنها تؤول إلى واحدة من النهايات المؤسفة التالية:

1- أن هامش الاستقلالية في صنع ذلك القرار العربي محدود مهما اتسع ذلك الهامش. إذ يبقى الأمر في نهاية المطاف تحت سيطرة واحدة أو أكثر من الدول الكبرى، ومن ثم فإن أية عملية اجتهادية للخروج بقرار ذاتي، يخدم المصلحة المحلية، هو نوع من الترف الفكري الذي لن يلبث أن يقع في براثن تلك القرارات التي تم تخاذها في غرف صنع قرارات تلك الدول الكبرى.

2- أن العرب مهما بلغوا من مكانة على طريق استقلالية قراراتهم، فإن الإرث الذي تناقل لهم، خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه التحديد إثر تشكيل الكيان الصهيوني، واكتشاف النفط بالكميات الغزيرة، والاحتياطيات الضخمة، فقدوا نسبة عالية من حرية اتخاذ قرارات، خاصة تلك الإستراتيجية منها نظرا لتشابك المصالح العربية مع مصالح الدول العظمى.

3- أن الحالات المتفرقة والمعدودة على عدد أصابع اليد الواحدة، التي نجحت فها دولة صغيرة أو مجموعة متحالفة من الدول الصغيرة في اتخاذ قرارات خارج نطاق القرارات التي اتخذت في دهاليز صنع القرار في الدول الكبرى، هي حالات استثنائية، ومن الخطأ أن تبنى عليها استراتيجيات، لكونها الاستثناء الذي يؤكد صحة القاعدة.

4- أن التطورات المتلاحقة والسريعة وما رافقها من إمكانات وفرتها تلك الثورة بين أيدي دوائر صنع القرار في الدول العظمى، أحكمت قبضة تلك الدول على مقدرات الدول الصغيرة، وعززت من سيطرتها عليها، وأفقدت هذه الأخيرة الهامش الذي كانت تحلم به عندما يتعلق الأمر بصنع قرارات ذات علاقة بمصيرها. يضاف إلى ذلك أن كمية البيانات التي باتت بحوزة الدول الكبرى، جعلتها تسبق الآخرين بمسافات ضوئية تبيح لها الأولوية في اتخذا القرارات الأكثر قربا من الصحة، والأشد قوة عندما يتعلق الأمر بمصير العالم.

5- أن تجارب سابقة في أمريكا الجنوبية، وحتى شرق آسيا، جميعها تثبت بما لا يقبل الشك أن مصير العالم، خاصة حين يتعلق الأمر بالقرارات الإستراتيجية، مهما طال الزمن أو قصر، تعود نتائجه كي ترجع معادلة العلاقات إلى عهدها السابق، الذي تضع الأمور بين يدي الدول العظمى، وأن ما يطفو على السطح، لا يعدو كونه جزءا من ذر الرماد في العيون كي يتسنى لدوائر صنع القرار في تلك الدول إحكام قبصتها على المنطقة المعنية، وإعادة الأمور إلى "نصابها".

6- أن الأمر ازداد سُوءا بعد سقوط الكتلة السوفييتية، وبروز نظام ما أصبح يعرف بنظام القطب الواحد الذي أطلق يد الولايات المتحدة بلا حدود، فوجدنا سياساتها تقترب من العربدة الإستراتيجية التي تحاول فرض معادلة معقدة، لكنها تحتفظ لواشنطن بالمكانة العليا في دوائر صنع القرار؛ بما يضمن حماية المصالح الأمريكية فوق أية مصالح أخرى، بغض النظر عن الأثمان التي يمكن ان تدفعها الدول الأخرى في مجال ضمان فعل معادلة العلاقات الدولية تلك.

في تلك الشواهد الستة المشار إليها أعلاه، هناك الكثير من الصحة، التي تثبت استمرار يد الدول العظمى الطولى في رسم أطر الدبلوماسية العالمية، ونطاقات العلاقات الكونية، لكن الخطأ يكمن حين يتحول ذلك إلى مسلمة غير قابلة للمناقشة، تقود إلى نشر روح الاستسلام في دوائر صنع القرار في الدول الصغيرة، التي عليها أن تراقب مسارات التاريخ، ودهاليزه الضيقة، كي تجد لنفسها منفذا في لحظة تاريخية معينة، تكون ظروفها ملائمة لصنع استثناءات يمكن ان تتحول في مراحل لاحقة إلى سوابق يبنى عليها.

دروس التاريخ تعلمنا، منذ سيطرة الروم والفرس على هذه المنطقة وتقاسم النفوذ بينهما، حتى اندلاع الحرب الكونية الثانية وعودة الصورة مرة أخرى لكن بوجود الكتلة السوفييتية والولايات المتحدة بدلا من الروم والفرس، أن هناك دائما فرصا تاريخية، لا يمكن أن تعوض، بحاجة إلى قيادة تاريخية، تستطيع أن تتخذ قرارا إستراتيجيا يكسر المعادلة، ويحقق الاستقلالية المطلوبة التي تحتاجها المنطقة العربية. ولكي يتحقق ذلك وفق معادلة علمية، ونهايات غير عشوائية، ينبغي العمل من أجل فرض مجموعة من العوامل، الأبرز بينها ما يلي:

أ- قبول دوائر صنع القرار العربي بفكرة أن تحقيق مثل هذه المهمة أمر منطقي وقابل للتنفيذ، من خلال قناعة راسخة تقوم على الثقة المطلقة في إمكانيات شعوب المنطقة في التصدي لمثل هذه المهمة وانجازها على الوجه الصحيح، وضمن وسائل سليمة، وخطط مدروسة قابلة للتنفيذ.

ب- بناء نظام متكامل شفاف محصن ضد كل أساليب الفساد بكل أشكاله المختلفة، قادر على توفير المعلومات الصحيحة لصناع القرار في الوقت الصحيح، وبالهيئة المناسبة، وعبر الطرق الشرعية، التي تعينهم على الوصول إلى القرار الصواب الذي يضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ويكون هؤلاء مؤهلين ومستعدين لبذل التضحيات المطلوبة التي تعينهم على تحقيق ذلك الهدف النبيل.

ج- عدم الانفراد بالمواجهة من خلال الاستعداد، والقدرة على نسج تحالفات إقليمية من نمط جديد ومع قوى جديدة برزت على ساحة العلاقات الدولية الحالية، حتى وإن وصل الأمر إلى مستوى يتطلب الخروج على دائرة التحالفات التاريخية القائمة.

الوصول إلى هذه الحالة من التمرد على الأوضاع القائمة، من أجل الخروج عن إصرار الدول العظمى على إحكام قبضتها على المنطقة العربية، بحاجة لقرار تاريخي، يتخذه قادة تاريخيون، نحن في أمس الحاجة لهم.

لا شك أنَّ القادة موجودون بيننا، والمطلوب أن نفتش عنهم كي لا نواجه لحظة نأسف فيها على تأخرنا أو تلكؤنا في الاستفادة من طاقاتهم وكفاءاتهم. وحينها لن ينفع الندم؛ فالفرص التاريخية لا تنتظر السذج، ولا ترحم الأغبياء.