كَم أنتِ عظيمة سيدتي

علي كفيتان

 

في هذا اليوم الأغر الذي أكرم فيه جلالة السلطان -حفظه الله وشافاه- المرأة العُمانية بيوم في العام لتذكر دورها المهم في بناء المجتمع. لا يهمني أن أتحدث عن طروحات سياسية ولا حتى حقوقية تخص المرأة العُمانية، ولن أتعب نفسي في البحث عن إحصائيات تثبت أو تنفي مدى تمكين السيدة العُمانية. هنا في هذا المقال سأكتب لكِ سيدتي فحسب.

يا مَن منحتني كل حواسها وجوارحها، ويا من تحملت كل هفواتي ونزواتي وغطت كل جزء من جسدي، ما زالت ترانيم مكينة خياطتيك "أبو فراشة" ذات اللون الأسود تدق أجراسها في أذناي الصغيرتين، لقد خلطتي الليل بالنهار لكي أفرح في ذلك الصباح بقميصي الذي انهالت عليه دموعكِ الطاهرة طوال الليل على ضوء ذلك الفانوس القديم. في الصباح، لاحظتُ بقايا الدخان الأسود في أنفك، إنه الفانوس اللعين، لفتِّ نظرك مسحتي كل الدموع وذلك السخام، وضحكتي معي، وكأن شيئًا لم يحدث، ذهبت معكِ لنحضر الماء من النبع البعيد، أنتِ تحملين قربتكِ الثقيلة، وأنا اركض مرة خلفك ومرة أمامك، ما زالت قطرات العرق التي تتصبب من وجنتيك حاضرةً في مخيلتي، ومع كل استراحة تضعين تلك القربة جانباً، ونجمع حبات السدر، وفي أحيان أخرى ثمار التين، أحملها أنا، وعندما أتذمر من ذلك الثقل البسيط، تقذفيه على القربة، وأعود أنا للعب معكِ وأنتِ لا تأبهين... كم أنتِ عظيمة سيدتي.

استقبلتني أخرى عند مدخل القرية، أخذتني في حضنها، ولعبت معي وهي ترعى قطيعها، كم كانت تحبني وما زالت أذكر أنها تبكي عندما أسبقها إلى الدار كل يوم رغم أنها خلفي، سكبت عليَّ كل أنواع الحنان، عندما يأتيها رزق تحفظ لي نصيبي منه مهما يكن كثيراً أو قليلاً، حتى إنها عندما تجمع الثمار وهي في البرية أجد في أطراف غطاء رأسها حبيبات الدوم (سدر) والروب (نبات مثل البطاطس صغير الحجم)، لم تنساني قط ولم أغب عن بالها أبداً، تقومين بكثير من الاعمال المنزلية رغم ضآلة جسدك، كم كان يشدني غناؤك النانا الريفي المنطلق إلى أصقاع المكان، لقد كانت الوديان تردِّد معكِ اللحنَ الحزين، وفي أحيان أخرى أغاني مسلم علي عبدالكريم؛ مثل: "يا راعيات الإبل...في الوسط يسكن حبيبي" وغيرها، كنت أتوقف عن اللعب وأقبض انفاسي وأستمتع بذلك الصوت الملائكي القادم من الجنة... كم أنتِ عظيمة سيدتي.

مرت الأيام، وذهب الصغير للمدرسة، في كل مرة أعود أجد دموعكِ حاضرة من خوفك علي، ولا يلومك أحد؛ فالأمر جلل في تلك الأيام المفعمة بالخوف والحزن معاً، كنتِ تعودين من المرعى وعلى ظهركِ كومة أعشاب كبيرة تكاد تختفين أنتِ في وسطها إلا رجليك التي تتحرك ببطء، وعندما تصلين تقذفي الحمل وتمنحيني السعادة؛ فمجرد عودتي سالماً هي عيد لكِ، كنتِ تخفين لي نقوداً لشراء احتياجاتي من تاجر الشنطة المتجول الذي يحضر للقرية بانتظام، لم تبخلي عليَّ يوما بمال أو حتي مشاعر، وظل هذا هو ديدنك حتى اليوم، أيُّ حب هذا وأيُّ إنسان أنتِ، حاولت أن أتقمص شيئًا من أدوارك بعدما رزقني الله بأبناء، لكنني فشلت سيدتي، أتعلمين لماذا؟ لأنني لا أتقن فنون المرأة ولأنكِ سيدة من العصر الجميل... كم أنتِ عظيمة سيدتي.

جمعني الله بكِ في يوم نادر، أتيت صباحاً كعابر سبيل. فظهرتي، قدَّمتي لي واجبَ الضيافة في بيت لا يغلق مجلسه أبداً، عدتي بكل أدب وتؤدة إلى الداخل، حضر أناسٌ مختلفون وقيل في المجلس كلامٌ كثير وحضرت الغداء، ومن ثم العشاء ورجلاي لم تبارح المكان لا أعلم ماذا فعلتي بي، ولكنَّني أصبحت مسكونا بكِ، لا مجال أمامي، أقدمت على ما يقدم عليه كل رجل، وشاءت الأقدار أن نجتمع. نعم، اجتمعنا، وأسستي كلَّ أركان الحياة في بيتنا الصغير، لم أجد لنفسي شيئًا أقوله لكِ، فكل الأمور دوماً في مكانها، قاومتي كل أشكال المحدثات غير الحميدة، رسمتي لنفسك خطًّا لم يحظ برضى الكثير ممن استهوتهم مغريات المرحلة، رسمتي صفحة حياة جميلة قوامها الإيمان بالله، الوفاء غير المتناهي، والتربية الصالحة، اليوم كل شيء في حياتنا هو صنعكِ سيدتي، وكم نحن فخورين بذلك... كم أنتِ عظيمة سيدتي.

alikafetan@gmail.com