حاتم الطائي
مازلتُ أؤمن بأنَّ شبابنا العُماني لا يزال يحملُ بين أضلعه المزيدَ من الطاقات الكامِنة التي لم تَصِل إليها بَعْد يدُ الرِّعاية والاهتمامِ لإبرازها وتبنِّيها، حتى هم أنفسهم رُبما لا يعي أغلبهم حجم هذا العُنفوان الفكري الذي تتشكل ملامحه بداخلهم، وهو ما لمسته حقيقةً في نوعية الابتكارات التي تفتَّقت عنها مواهبهم، خلال محطات الجولة التعريفية بـ"جائزة الرُّؤية لمبادرات الشباب 2017"، والتي كانت مسرحًا لعرضها وظهورها للنور.
فعلى مدى الأسابيع الماضية، ومِنَ الرستاق إلى البريمي، ومن ثمَّ عبري وإبراء، شاهدتُ خلال عروض التجارب ومعارض الابتكار، تفوقا مبهرا لأبنائنا الشباب على أنفسهم والظروف المحيطة بهم.. شبابٌ وفتيات تجاوزتْ أعمار بعضهم العقد الأول بقليل، وآخرون دون الثلاثين، اجتمعوا على قاسمٍ مشتركٍ هو الإبداع والابتكار؛ يلمُع في أعينهم بريقٌ تتلألأ بين ثناياه طاقات واعدة، تبحثُ عن بيئة أكثر تحفيزاً ودعمًا لتدفع بهم بخطى ثابتة نحو "المستقبل الذكي".
واليوم.. ونحن نعدُّ العُدَّة لموَاصَلة البرنامج التعريفي بالجائزة في محطاتنا القادمة، يُمكنني التأكيد -دون مبالغة- بأنني أصبحتُ على يقينٍ تامٍّ بأنَّ أبناءنا من هذا الجيل الواعد استطاعوا -وباقتدار- أن يتخطُّوا عقبة الإشكالِ الأزليِّ الذي ظلَّ الكثيرون يُلصقونه بهم من نقصِ الطاقات الفكرية والرؤى الإبداعية، فما لمسته هذا العام تحديداً -ومقارنة بالأعوام الماضية من عُمر الجائزة- يدعو حقيقةً للانبهار، ويفتح الباب مُشرعا على تساؤلات أظن أنَّ (الآن) هو توقيتها المناسب أكثر من ذي قبل؛ وهي: أين نريد اليوم أن نصل بهذا الشباب الواعد في عالم الابتكار؟ ومع هذا الألق الشبابي، ما هي الخطط المستقبلية لحواضن هذه الإبداعات؟ وهل المحفِّزات الموجودة اليوم قادرة على الخروج بأفكارهم من الإطار الضيِّق للفظة "الفكرة" إلى أن يُواصلوا مسيرة الإبداع بما يمهِّد الطريق أمامهم لمجاراة زملائهم في دول العالم المتقدِّم؟ وهل اكتملتْ ملامح رؤيتنا -نحن جيل الآباء وكافة الشركاء الفاعلين في العمل الجَمْعِي- لتبني هذه الإبداعات، خصوصاً في ظل توجُّه عام بات أكثر إلزاماً لشبابنا بتأهيل وتطوير ذواتهم لخَلْق فرص عمل خاصَّة؟!
وفي رأيي أنَّ خلق بيئةٍ مُحفِّزةٍ وداعِمةٍ للابتكار لم يعُد بتلك الصعوبة التي كانت مُترسِّخة قديما في الأذهان؛ إذ يُمكننا اليوم وبشيء من الإرادة والتخطيط، وتكريس الموارد، أن نخلق أجواءً تنافسية بين هؤلاء الشباب، تحفِّز، وترعى، وتدعم، وتؤهل قطاعاً أثبت حُسن نيَّته في أن يكون على مستوى الواجب الوطني، وأن يَفِي بعلمه وعمله لكل ما ينفع وطنه ويعلي شأنه، ويحفظ منجزه ويبني عليه. لتنزاح الكرة قليلًا عن خط المنتصف، وتستقر في ملعب الفاعلين -حكومة، وقطاعاً خاصًا، ومجتمعا مدنيا- لتفرض وضعاً جديدًا يستدعي إعادة النظر في الخطط الموجودة وتعديلها، واستحداث أخرى تضمن لأبنائنا الوصول إلى محطات أكثر تفاعلية مع العالم وتجاوز مرحلة التلقِّي السلبي، عبر برامج تربط الابتكار بآفاق الاقتصاد المعرفي.. وهو ما سبق ودلَّلت عليه في غير ما مَوْضِع بنماذج عالمية شابَّة، صارت اليوم مضرب مثل؛ على شاكلة شركات البرمجة الأمريكية والآسيوية العملاقة كـ"فيسبوك"، و"جوجل"، و"أمازون"، والتي بدأت جميعها بأفكار بسيطة تفتَّقت عنها أذهان شباب يافعين، استطاعوا خلال أعوام تكوين إمبراطوريات معلوماتية عالمية توظِّف مئات الألوف من الكوادر، وأرقامًا صعبة في الاقتصاد العالمي، تؤثر فيه ويتأثر بها.
وهو ما بدأنا نتلمَّس صَدَاه الطيِّب داخل مجتمعنا، ونحن نرى ونسمع عن نماذج وطنية شابة تُكافح لتأسيس مشاريع واعدة، على أُسسٍ جديدةٍ بعيدًا عن العشوائيةِ والارتجالِ. إلا أنَّه لا يزال العديد غيرهم في بداية الطريق، يأملون دعمًا يُبصرون به وجهتهم، وبرامج فاعلة تبتعدُ بهم عن التثبيط والقعود بالهمم، سواءً من نظرة المجتمع بعين الشك لما يحققوه من إنجاز، أو القصور والخلل في بنيَّة الفهم السليم الذي يربأ بالإنسان عن أن ينتهج النقد لمجرد الانتقاص من جهود في ريعان الشباب، وعنفوان جيل يعمل في صمت بعيدًا عن الأضواء، يأمل المنتسبون له فقط في أن يجدوا من يُربت على أكتافهم ويأخذ بأيديهم، ويعظِّم قدراتهم وإمكاناتهم؛ كي لا تغيب البوصلة، فيكون الناتج سلبيًا وتتصاعد سلوكيات اللامبالاة، التي لا تقود في خاتمة المطاف لشيء سوى إحباط يخسر معه الجميع.
واليوم.. وهذا الجيلُ الفتيُّ يستحضرُ ثقةً ساميةً من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- يُحيي ذكراها الرابعة يوم السادس والعشرين من أكتوبر احتفالا بيوم الشباب، فإنَّ الجميع مطالب بمزيد من العمل لاحتواء إبداعات وجهود شبابنا، ومعرفة أنسب السبل للتعامل معها وتنميتها، والعمل على تدعيم البناء التربوي في نفوسهم، وهي نقطة في غاية الأهمية؛ إذ إن التحدي اليوم هو كيف نغرس أسس التفكير الابتكاري في نفوس الأجيال الصاعدة عبر مناهج تلازمهم من الصفوف الأولى والوسطى وصولا إلى المستويات التعليمية العُليا، بطرائق مبتكرة تبتعد عن الأسلوب التلقيني، إلى حيث التركيز على التحليل والربط بين المعلومات والاستفادة من هذا التحول الرقمي الواسع في عالم التقنية. وهنا أنتهز الفرصة للإشادة بمهرجان العلوم، الذي تعتزم وزارة التربية والتعليم تنظيمه، الأسبوع المقبل، كتحوُّل منطقي في التعامل مع قضايا هذا الجيل والوصول لمعالجات متطوِّرة، والاحتفاء بنتاجاتهم الفكرية وإبداعاتهم، كونهم من يعوَّل عليهم مستقبل الوطن وحاضره في عالم متغيِّر ومتجدِّد كل يوم.