صلاة تشرنوبل.. أدب جديد

عبد المنعم محمد - القاهرة


جموع الأنظمة السياسية الاستبدادية هي المتحكمة في كل شيء على صعيد الأرض، ولديها إمكانيات التلميع والشيطنة للأفكار أو الأشخاص، أو المعتقدات. لكن يأتي دور الأديب، أو الشاعر، أو المفكر؛ ليقوم بعملية التفكيك ووضع المصابيح المنيرة على المناطق المظلمة، بمعنى آخر يقوم بفض الاشتباك وتعرية هذه الأنظمة في شكل قصيدة، أو رواية، أو فكرة يحتويها كتاب حبذا لو عاش الأديب التجربة وكانت واقعاً بالنسبة له، وهذا لا يقتصر على الأديب فحسب إنما يشمل الشاعر والمفكر أيضًا. ففي عام 1986 م ارتكب النظام السوفيتي خطأُ بشعاً حيث أنشأ مفاعلاً نوويًا في منطقة كانت تخضع له في ذلك الوقت (تشرنوبل). وبعدها بسنوان انفجر المفاعل وطالت إشعاعاته كل من في الأرض ومن بإمكانه أن يصعد إلى السماء من طير، أو جماد، أو إنسان. غير أن الشعوب الماكثة في أماكنها والتي لم تسافر، ولم ترحل لم يستطع الاعلام إمدادها بهذه الأحداث، فأمدها الأدب.
إن شئت فقلْ: أمدتها الترجمة.
فها هي العظيمة (سفيتلانا أليكسييفيتش) نزلت أرضت الواقع تتقصى وقائع هذه المأساة، ومما يلزم التنويه عنه أنها بذلت جهدًا كبيرًا لتأخذ، وتسجِّل الوقائع من أفواه من عاشوها؛ من الحبلى التي قتل الأشعاع زوجها وكان أشد قسوة فاغتال جنينها.
ذلك الإشعاع الذي لا يختلف عن بشاعة الموت شيئًا؛ بل هو أبشع من الموت هو مرحلة من العذاب قبل الموت.
فقد ذكرت (سفيتلانا أليكسييفيتش) في "مونولوج النبوءات القديمة" الطفلة التي انسرب الإشعاع إليها بعد أن اخترق بطن أمها وشوهها، فولدت ناقصة الأجهزة (ناقصة الأنوثة) أي بشاعة فعلتها تلك الأنظمة؟
لم تترك (سفيتلانا أليكسييفيتش) شيئًا، أو مأساة إلا وتحدثت عنها، تحدثت عن الحيوانات، عن الطيور، عن الجنود، عن رعب السوفييت ومحاولتهم طمس الحقائق لكنهم عجزوا عن ذلك بفضل الأدب، وتوثيقاته للأحداث.
"المونولوجات الجديدة" استحقت (جائزة نوبل) عن جدارة، ولو كانت هناك جائزة أعلى من نوبل لاستحقها القاطنون هناك أولئك الذين واجهوا الإشعاع بصدورٍعارية، والمستضعفون الذين قهرهم السوفييت.
أحمد صلاح الدين حاور (سفيتلانا أليكسييفيتش) ونشر حواره معها داخل الكتاب، وقام بنقل هذه المأساة لنا من الروسية إلى العربية. تحدثت في بداية الأمر عن عوالم الأدب والفكر والشعر، والآن ندخل عالما آخر لا يقل أهمية عن هذه العوالم
 (عالم الترجمة) حيث الدقة والطمأنينة لدى القارئ ودراية المترجم الكبرى بالأعراف الروسية والعادات والتقاليد والانغماس داخل قلب ذلك المجتمع كنت اطلعت على كتاب له (ورثة تالستوي)، وهو تأريخ للأدب الروسي تحدث في نهايته عن عظمة هذه الأديبة ومجهوداتها، والآن ظهرت هذه العظمة في (صلاة تشرنوبل).

تعليق عبر الفيس بوك