جرثومة اليأس السياسي

عبيدلي العبيدلي

من مسلمات العمل السياسي أنه محصلة مجموعة من الحالات المتعرجة التي تتخللها مراحل صعود قوى سياسية وهبوط أخرى، وربما تلاشيها، وتتعرض لحالات مد لأطراف معينة وانكماش أيضا لأخرى. النظرة المسطحة الساكنة لحركة المجتمع هي التي ترى أن الصراع محصور فقط في أطار واحد متفرد يبين بين أطراف المعارضة وقوى السلطة. لكن تاريخ تطور الشعوب، وخاصة العريقة منها، بؤكد أن هذا التطور في نطاق العلاقة بين السلطة القائمة، وأطراف المعارضة، يأخذ ثلاثة مسارات رئيسة، على النحو التالي:

المسار الأول: وهو المجرى الرئيس الذي يكاد يشمل أطراف مكونات العمل السياسي كافة، هو الذي يقوم بين السلطة بكافة مؤسساتها، والمعارضة بجميع ألوان طيفها السياسي. يتمحور هذه الصراع، وفي مراحله الصحية حول البرامج الوطنية، والخطط التنموية، والمشروعات الإستراتيجية. ويتحاشى، بوعي من أطرافه، ومستوى النضج الراقي الذي بات في حوزتهم، الدخول في صغائر الأمور، أو الانحراف نحو هوامشها. تتنافس هنا البرامج الوطنية المختلفة، ويتبارى الجميع، بمن فيهم الكفاءات الوطنية المستقلة، في طرح المشروعات، والتبشير بمكونات النمو والتطور. يتمتع المجتمع هنا بحركة دينامية صاعدة، قادرة على الفرز الصحي المطلوب الذي يلتقط البرامج الصحيحة، ويكسب الكفاءات المطلوبة، ويلفظ كل ما دون ذلك. وتصبح حركة المجتمع لولبية صاعدة في الاتجاه الصحيح، ونحو الأهداف السليمة.

المسار الثاني: هو الذي تتراجع فيه تلك المشروعات الكبرى، وتحل مكانها مجموعة من المتطلبات الصغيرة التي تنهك قوى الجميع، إما لهث وراءها من قبل القوى المعارضة، أو صد عنها من طرف الأوساط الحاكمة. حينها ينبري من بين صفوف مكونات العمل السياسي، أفرادا أو مؤسسات، من لا يملكون الكفاءة، لا يحوزون على الرؤية السليمة، لكنهم، بفضل مهارات أخرى، لا ينبغي الاستهانة بها أو التقليل من خطورتها، قادرين عن حرف الأنظار عن تلك الكبرى، وتحويلها، ومن ورائها الجهود، نحو تلك الصغرى التي يغرق الجميع في أوحالها. يبدو المجتمع هنا أنه في حركة مستمرة يعلو ضجيجها، لكنها أفقية غير قابلة للتطور، لكنها، أيضا، تملك مقومات الحياة والاستمرار، وقادرة على إيهام جميع الأطراف التي تقف وراءها أن هناك عملا ينجز، ومهامَّ تنفذ، لكنها جميعا لا تتجاوز تأثيرات الرماد الذي تنثره في عيون الضالعين فيها، والمتفرجين عليها على حد سواء.

المسار الثالث: هو الأشد خطورة، وأعمق تأثير في الاتجاه السلبي، وهو عندما تصاب مكونات العمل السياسي بحالة من الإحباط، فتكف، بشكل غير واع عن القيام بمهامها، وتترك الحبل على الغارب، والغارب هو ذلك الجزء من جسد البعير، وعندما يوضع الحبل على الغارب، يعني أن البعير أصبح حرا طليقا يرعى أينما يشاء دون وجهة نظر محددة، ولا يوجد من يقوده. يتحول المجتمع هنا، وعلى المستوى السياسي، إلى كتلة متحجرة ساكنة غير قابلة للحركة الموجهة. خطورة هذه الحالة الساكنة أنها تتجذر سلبيا، وعلى نحو مستمر، فتسرب موجة من اليأس القاتل في مكونات العمل السياسي. وحينها تطفو على السطح مجموعة من الظواهر السلبية التي يمكن إجمال الأهم بينها في النقاط التالية:

1- كفر بالعمل السياسي، ماضيه وحاضره، يتطور رويدا رويدا، ويتغلغل في نفوس نشطائه، فيتحول إلى حالة متأصلة من اليأس، قائمة على أن كل ما تم القيام أصبح هباء منثورا، وان الحاضر أسوأ بكثير من الماضي، وأن القادم لن يكون أفضل، إن لم يكن أسوأ. هذه النظرة السوداوية، قادرة بفعل ديناميتها الذاتية، والقوى الخارجية التي تغذيها ولها مصلحة مباشرة وغير مباشرة في تأصيلها، تتنامى حتى تصبح سلوكا يوميا لنشطاء العمل السياسي، حتى من قبل المؤهلين.

2- بروز الطفيليات غير الكفؤة التي تنتعش بتعكير مياه العمل السياسي، وتنهض قواها في المياه الراكدة التي تكبل مبادرات القوى الكفؤة، فتكبو أفراسها عندها. وينعكس هذا الانتعاش في مجموعة من الأنشطة التي تسيطر على شوارع العمل السياسي وتتحكم في حركتها. تسيطر هذه العناصر الطفيلية، بفضل مهاراتها التخريبية التي اكتسبتها، على مفاتيح العلاقات السياسية، فتبدأ في تجييرها لصالح مشروعاتها التي تتمحور، بشكل رئيس، حول دق أسافين الخلافات بين مكونات العمل السياسي، وزرع انعدام الثقة بين أطرافها، لضمان تنافرها وتباعد مشروعاتها السياسية، التي يفترض، أنها مهما تباينت مداخلها، لكن المخارج، كما أسلفنا تلتقي عند نقطة مركزية واحدة ه النهوض بالوطن، وضمان تطوره.

3- ترويض منظمات المجتمع الوطني، وتقزيمها، بعد إفراغها من الداخل، ونجاح تسلل تلك الطفيليات لها، وإزاحتها للعناصر القيادية الكفؤة التي قادت تلك المنظمات، وحولتها إلى مكون أساسي من مكونات العمل السياسي، لكن بضوابط مختلفة تتلاءم وطبيعة ومسؤوليات تلك المنظمات. تتحول منظمات المجتمع المدني، إما إلى هياكل مفرغة من محتوياتها، أو إلى تابع لتلك العناصر الطفيلية، فتجد نفسها تصب الماء في طواحينها. فتكتمل دائرة زرع اليأس التي بدأت بمكونات العمل السياسي قبل أن تحط رحالها عند أبواب منظمات المجتمع المدني.

في تلك اللحظة التاريخية، بالمنطق السلبي، تتفشى جرثومة اليأس، وتنتقل من المؤسسات إلى الأفراد، خاصة القياديين منهم، وتصل حالة الإحباط إلى قمتها، ويجد المجتمع نفسه أمام خيارات جميعها تصب في أتون تدهوره، وتهدد بتدميره.

فقسم من هؤلاء المحبطين الذين تسربت حالة اليأس إلى قلوبهم، سوف ينزوون، ويتقوقعون على أنفسهم من الداخل. فتفقد الأمة أفضل كوادرها، وتخسر أحسن رجالاتها الذي استثمرت فيهم لعقود من الزمان. ويحل مكانهم من لا يمتلكون من كفاءات أكثر من التطبيل والتزمير.

القسم الآخر -وهنا تكمن الخطورة- يقدمه المجتمع، بوعي أو بدون وعي، لقمة سائغة لقوى الهدم والتدمير، التي تستفيد منه بدورها في مشروعاتها التخريبية. ومحصلة ذلك مرحلة من التهشيم المستمر والمؤطر، يكون الخاسر الأكبر فيه هو الأمة، وخاصة مكونات عملها السياسي الناضج والراغب في البناء، لا الهدم.

حالة اليأس التي نحذر منها قادمة، وجرثومتها على أهبة الاستعداد، لكن مواجهتها وصد موجتها، مهما كانت عالية، ليست أمرا مستحيلا.