مدرين المكتومية
قبل أيام، كان العالم يحتفل بيوم المسنين، وهذه المناسبة تحمل الكثير من الشجن بالنسبة لي؛ فدائما ما تلوح لي صورة جدي -عليه رحمة الله- كلما سمعت كلمة مسن، بشعره الفضي، وتجاعيده التي ترسم لوحات من الخبرة والمشاعر التي خطتها يد السنين على وجهه، ذكريات الجد لا يعيها الكثيرون الآن، مع تباعد المسافات والفجوات الزمنية بين الأجيال، ليصبح بين الجد والحفيد واد يجري، لا الحفيد يرغب في عبوره، ولا الجد يستطيع ذلك.
سأروي فقط بعض المواقف التي تتمثل فيها قيمة هذا المسن الذي لا يرتبط بالضرورة بالشفقة والعطف، لكنه مصدر ملهم وكتاب حي ملأته الحياة بالعبر والحكمة؛ ففي الوقت الذي كان والدي يرى فيه السفر مشكلة، كان جدي يراه فرصة لاكتشاف العالم بنفسي، ولأشعر باستقلاليتي، ولأستطيع أن أكمل طريقي في الحياة دون مساعدة أو حاجة لمن يساندني، كان ينظر للأشياء بنوايا صافية، يُحب الحياة بتفاصيلها ويؤمن بأن أجمل ما يمكننا فعله هو محاولة اكتشافها وتلمس جمالها.
ما زلت أذكر كيف كان أبي مُصرا على أن أدرس الترجمة، بينما جدي يريدني فقط أن أدرس ما أحبه ويمكنني إثبات ذاتي فيه، كالقانون أو الهندسة، ولكن شاءت الأقدار أن أتخصص في الصحافة، ولم يكن الأمر بذلك السوء الذي اعتقده الجميع.
كنت أستفيد كثيراً من جدي الراحل، الأب الذي احتوى الجميع في قلبه ومنحهم من كرمه وعطائه وصفاء نيته، ولا أنسى أبداً تلك الثقة التي زرعها في شخصيتي والتي جعلتني لا أتردد في القيام بما أريد؛ فكل ذلك منحني الكثير من القوة والهدوء واحترام الآخرين، وفي نفس الوقت أمارس حياتي كما أريد وأؤمن دون الاكتراث بالمحبطين؛ لذلك انتقلت للعيش بمسقط، وعملت في المجال الذي أريد، واخترت المكان الذي أسكن فيه، وأكملت دراستي في مجال آخر، وبينما أواصل المضي في طريق الحياة لا تفارقني ملامحه، ويتردد صوته دائماً في رأسي، وأطالع ابتسامته الواثقة ونظرته الحانية وكأنه يراقبني عن بُعد، ويمنحني المزيد من الحب والثقة والفرحة بما أفعله.
لا تكفي عبارات الشكر في الدنيا كلها لأقدمها له، وامتناني بما فعله من أجلي، وبتأثيره في حياتي.. فهذه المواقف وغيرها قد يحرم منها الجيل القادم؛ لأن جيلا وسيطا من الآباء والأمهات الآن يرى في العائلة والبيت تقاليدَ قديمة، ويفضلون ترك أبنائهم في رعاية المربية، وأكثر ما يثير غضبي هؤلاء الشباب الذين يرون المسن مجرد كومة من الهموم والمشاكل، فيجردونه من إنسانيته، ويتعاملون معه كأنه مرض يودون الساعة التي يشفون فيها منه، ولا يدرون أن الأيام دُوَل، وأن العمر سيجري ويصبغ شعرهم باللون الأبيض، ويحني ظهورهم، ويرسم تجاعيده على وجوههم، وأنهم كما عاملوا سيعاملون.
وعلى الجانب الآخر، هناك من حرمتهم الظروف من أقرباء أو معارف، ويحتاجون مع تقدم أعمارهم لرعاية خاصة، وهنا ليس من العيب أن تتواجد دور المسنين في كل ولاية ومحافظة، بل ومن الواجب أن يكون لكل فرد في المجتمع مساهمة في الارتقاء بمستوى الرعاية في هذه الدور؛ سواء بالتبرع المادي أو المعنوي بتخصيص وقت للتواجد مع المسنين، حتى وإن كان للاستماع لقصصهم، والتخفيف عنهم؛ فهؤلاء يحتاجون منا كلمة طيبة ويدا حانية تعينهم على ما هم فيه؛ فالحياة محطات؛ لذلك علينا أن نقف عند تلك المحطة، لنجد يومًا ما عابرا يقف عند محطتنا حين تقف بنا الحياة ولا نقوى على الاختيار.
madreen@alroya.info