أثواب الكسل (1)

عيسى الرَّواحي

تحدَّثتْ خطبة عيد الأضحى المبارك لهذا العام عن أمورٍ شتَّى تهمُّ المسلمين في عمومهم، وممَّا شدَّ انتباهي -وكان جديرا بالاهتمام- عند الحديث عن الخيرية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أنَّ "من لوازم هذه الخيرية أن ينفض المسلم عن نفسه أسباب الضعف، وأثواب الكسل".

لقد استوقفتني لفظة "أثواب الكسل" كثيرا، ورأيتُ أنَّ هذه الآفة من أشد آفات العصر حسب وجهة نظري. وباليقين الجازم، فإنَّ الكسل يتنافى مع الخيرية التي اتصفت بها أمة مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران:110). فلا يأمُر بمعروف، ولا يَنْهَى عن منكرٍ، ولا يُؤمن بالله حقَّ الإيمان كسلانٌ قط، بل إنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد استعاذَ بربه من هذه الصفة الذميمة؛ فكان يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل".

أمَّا العجز، فهو عدم القدرة على فعل الشيء، فيما يعني الكسل عدم فعل الشيء مع القدرة عليه، وتعني كلمة "الكسل" -حسب ما ورد في معاجم اللغة- التثاقل والفتور عن فعل الشيء، وعدم انبعاث النفس على فعل الخير، وهو مذموم بنص القرآن الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ" (التوبة:38).

الكسلُ آفة العصر، وآفة الشباب على وجه الخصوص، الذين تُعقد عليهم الآمال، وبهم تنهض الأمم، وتزدهر الحضارات، وتُبنى الأوطان؛ فمرحلة الشباب في حقيقتها هي مرحلة الفتوة والقوة والصحة والحيوية والنشاط والهمة والعطاء والطاقات المتوقدة والسواعد الفتية والعزائم المتوهجة وتحقيق الأهداف المنشودة، وهي المرحلة الذهبية من مراحل عُمر الإنسان؛ لذا فلا غرابة أن يُسأل المرء يوم القيامة عن هذه المرحلة العمرية سؤالا عامًّا عند السؤال عن سائر عمره، ويُشدَّد عليه السؤال والحساب عن هذه المرحلة خصوصًا.

لكنَّ الواقع الحالي يُثبت أنَّ أثواب الكسل صارتْ رداء لطاقات كثير من الشباب، وكثير من أبناء المسلمين بمختلف مراحلهم العمرية رغم المؤهلات التي تحفزهم على العمل والعطاء، ورغم الأسباب التي تستدعي أن ينفضوا عن أنفسهم أتربة الخمول والكسل. وما من شك أنَّ الكسلَ من أكبر أسباب الفقر والفاقة، ومن أكبر مضيعات الوقت الذي به مناط سائر النعم؛ إذ هو عُمر الإنسان الذي لا يُمكن أن يُعوَّض أو أن يُشترى بأغلى ثمنٍ، بل إنَّ الكسل سبب لأدواء وأسقام متعددة؛ منها: الاكتئاب، والبدانة، والتوتر، والقلق - حسب الدراسات الطبية.

صَار الكسلُ رداء لنا ونحن نعبُد ربنا؛ فتجدنا مُتثاقلين في أداء الفرائض والطاعات: "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى"، وتجدنا مُتثاقلين -بل عاجزين- أن نؤدي النوافل وما يزيدنا قربة إلى الله تعالى، وانظر إلى حالنا في أيام رمضان الفضيل كيف صِرنا نتأفَّف إنْ أطال الإمام في صلاة التراويح، بل صرنا نبحث عن الإمام الذي لا يطيل في صلاته.

وتجدُ من الشباب من يُصلُّون صلاة الفجر في بيوتهم رغم جيرتهم للمسجد أو قربهم منه، ورغم ما أسبغ الله تعالى عليهم من نعمة الصحة والعافية، وما ذلك إلا للدعة والخمول والكسل الذي غلب عليهم عندما نادى المنادي: "حي على الصلاة... حي على الفلاح"، ومن بدأ يومه وقد قصَّر في هذا الركن العظيم، فقد فاته خير عظيم وأجر عميم، ما جرَّه إليه إلا هذه الآفة المقيتة.

وتجدُ من المصلين مَنْ ما إنْ يفرغ من صلاته حتى يُسارع بالخروج من المسجد، فلا يرغب إلى ربه إذا فرغ، ولا ينصب، ولا يمسك مصحفا كسلا منه وتهاونا. يعترف أحدهم بأنه لا يتلو كتاب ربه إلا من الجمعة إلى الجمعة، وما أكثر الذين على شاكلة هذا المعترف!

وصار الكسل رداء لنا ونحن نؤدِّي أعمالنا وواجبات وظائفنا، فقد صار التذمُّر والتسويف والتأخير والتأفُّف شعارا لكثير من الموظفين.

وتجدُ من الشباب من يصلون إلى مقار أعمالهم متأخرين حتى صار التأخير ديدنهم، والبحث عن الأعذار واختلاقها شعارهم، وما تأخيرهم المستمر لزحام الشوارع أو لبُعد المسافات، أو لعدم وجود وسيلة نقل، فكم من بعيد عن مقر عمله لا يحضر إلا مبكرا! وكم من مستقل لسيارة أجرة تجده أول الحاضرين إلى مؤسسة عمله! ما نتج هذا التأخير إلا للدعة والركون إلى النوم في غير وقته خمولا وتكاسلا. أخبرني موظف مسؤول بإحدى المؤسسات الحكومية أنه أعياهم أحد الموظفين من كثرة تسيبه وغيابه عن مقر العمل ساعات طويلة رغم أنَّ بصمة حضوره وانصرافه في الأوقات المحددة، فقد عرفوه فيما بعد أنه يخرج من مكتبه خِلسة فينام في غرفة الحراس بتلك المؤسسة، حتى اعتاد هذه العادة المذمومة، فهل لذلك من مسوغ غير التهاون والكسل؟!

وما أكثر الأعمال التي يتأخر الموظفون في إنجازها رغم كثرتهم! وما أكثر معاملات المواطنين المركونة داخل الأدراج أسابيع وشهورًا، يُصاب أصحابها بالتعب والإعياء من كثرة متابعتها! وما أكثر الأعمال اليسيرة التي تُنجز في أوقات طويلة! كل ذلك مرده أو سببه الرئيس التهاون والتسويف والدعة والكسل، فيضيع على إثره الوقت الثمين المخصص لتلك الأعمال، وتهدر بسببه الحقوق إثر التقصير في أداء الواجبات... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.