من زنجبار إلى دار السلام


"من زنجبار إلى دار السلام" كتاب صدر للكاتب العمانيّ سعود بن علي بن عبد الله الحارثي وهو في الإساس رحلة قام بها مع ثُلّة من خيرة الأصدقاء، وكتب عنها أربع مقالات مطوّلة في جريدة الوطن غير أنّ الإضافة في هذا الكتاب تأتي فيما ضمَّنه من حواشي شارحة مردودة إلى أسانيد مرويّة دقيقة، وبيانات سلطانية ومخطوطات، ووصايا ورسائل متبادلة بين العمانيين من سكان زنجبار وأهلهم في الداخل العمانيّ، وصور فوتوغرافية لشخصيات وعملات نقدية وطوابع بريدية، وطرز معمارية ومناطق أثرية تشير إلى ترابط وشائج الصلة والأرحام بين زنجبار وسلطنة عمان.
في هذا الكتاب الذي صدر عن دار "الغشام" وبعيدا عن خط الرحلة الرئيس الذي أبدع سعود الحارثي في تسجيل أحداثها عبر وسرد درامي وبلغة بلاغية سهلة خالية من التقعّر والإيغال في الوحشي من الألفاظ إلا أنّ أهم جزء في الكتاب من وجهة نظرنا هو فصلها الأخير الذي عنونه المؤلف باسم "نتائج وملاحظات" وهي توصيات ومقترحات للحفاظ على الموروث العماني في زنجبار وتنشيط أواصر التواصل الثقافي، وتمتين العلاقات الحضارية والاجتماعية قبل أن تندثر أو يتم السطو عليها من (قراصنة التاريخ).
وبعد الثناء على الجهود المبذولة من هيئة الوثائق والمحفوظات العمانية في متابعة ودراسة أرشيف زنجبار، وما يقوم به التليفزيون العماني من إعداد البرامج الوثائقية يدعو الحارثي إلى إعداد موسوعة شاملة ومتكاملة عن التأثير والعلاقات والوجود العماني في شرق إفريقيا، وتشكيل فرق عمل متخصصة ورصد موازنة تكفي لهذه المهمة الحضارية.
وينبه الحارثي قبل فوات الأوان إلى ضرورة رصد وتوثيق "الوجود العماني" في زنجبار: تاريخه وثقافته وتأثيراته وصبغته ومجالاته ورجالاته، والسعي إلى جمع الآثار العمانية هناك وتسجيلها وتصويرها وحفظها، كما تجدر الإشارة إلى ضرورة تقديم التاريخ العماني على أرض هذه الجزيرة للأجيال القادمة وهي مسؤولية جسيمة وأمنية كبيرة تقتضي جهادا كبيرا من الجهات المختصة في حفظ وكتابة التاريخ ورعايته.      
وفي إطار فلسفة القوة الناعمة يدعو صاحب كتاب "من زنجبار إلى دار السلام" إلى استثمار العلاقات التاريخية بين السلطنة وزنجبار؛ في بناء علاقات تجارية؛ استثمارا للمقومات والثروات التي تمتلكها البلدان، وقبل ذلك ضرورة مراجعة القوانين والأنظمة والآليات التي من شأنها التيسير على العمانيين المقيمين في شرق إفريقيا للحصول على الجنسية لمن أراد منهم.
في هذا (الكتاب – الرحلة) ينفتح سعود الحارثي بعقلانية ودونما مواربة أو إثارة فيضع سن قلمه على العديد من الإشكاليات التي تضج مضجع المواطن الزنجباريّ فنراه يكتب بلغة هادئة: "في دار السلام مازالت الجالية الهندية التي ورثت التجارة أبا عن جد تسيطر على هذا القطاع الحيوي، في حين أن الأفارقة أبناء البلد الأصليين يجوبون الشوارع ويُعرّضون أنفسهم لشتى المخاطر، لاهثين وراء لقمة العيش من مختلف الأعمار ، يَعرضون بضائع متعددة وسلعا متنوّعة على أصحاب المركبات، وكل ما يبيعون مملوكا لأصحاب المحلات والسوق، وليس لهم من البيع إلا الفتات".
المتأمل في وجوه البشر في الأسواق والشوارع والمكاتب والمتنزهات لا تخطئه الملامح العربية، التي مازالت محافظة على جزء من ثقافتها وسلوكها وأسمائها ومظهرها ويتساءل سعود الحارثي: لماذا اختار العمانيون شرق إفريقيا وطنا ثانيا لهم؟ ويرى المؤلف أن المؤشرات والاكتشافات والأقوال تؤكد أن الوجود العماني في شرق إفريقيا قبل انبلاج القرن الأول الهجري. وفي سلسلة من الأسئلة المتولدة من ذواتها يحاول المؤلف الإجابة على السؤال الرئيس: لماذا اختار العمانيون شرق إفريقيا وطنا ثانيا لهم؟
هل هو الموقع الجغرافي والصلات البحرية أم الطقس والبيئة المواتية؟ أم إن الظروف السياسية وطبيعة الإنسان الإفريقي وسهولة تطويعه والتحاور ومعه وتقبله وترحابه بالأمم والأعراق الأخرى هو ما دفع إلى ذلك؟ هل لأنهم وجدوا ما افتقدوه في عُمان.. الطبيعة الخضراء الخلابة، الطقس المعتدل ونسماته العليلة، في مقابل القحط وشح المياه وحرارة الطقس وجفافه، الهدوء والطمأنينة والاستقرار والسلم هروبا من الصراعات القبلية وضنك العيش والحروب التي تُشَنُّ على عمان من هنا وهناك، وعلى مراحل متقاربة، والسعي إلى إخضاعها وضمها إلى الدولة الإسلامية، وإصرار أولياء الأمر حكاما وأئمة وولاة وأهل عُمان كافة على الاستقلال والانفلات من التبعية؟ هل هو موقعها الجغرافي المتميز، وبركة التجارة ونماؤها، والزراعة وطيب تربتها وعائدها المادي الوفير وأخذا بنصيحة التجار والمكتشفين الأوائل؟ هل توافقت واتسقت كل تلك المقومات والعناصر والأسباب مع طبيعة الشخصية العمانية ومتطلباتها وتطلعاتها، واجتمعت في محتوى واحد فقدّرها العمانيون حق قدرها فكانت موقعا مناسبا لاحتضان العمانيين وقت الأزمات والصراع والحروب وضنك العيش لجأوا إليها كبديل تهيأت فيه المقومات والعناصر والمتطلبات المؤَسِّسةُ لإمارة والدولة فتأسس الوجود العماني وقان ونما واتسع في فترات واضمحل في فترات أخرى، فكانت شرق إفريقيا جزاء مهما من الحضارة العمانية؟ أسئلة تحتاج إلى جهود أكبر، ودراسات أعمق، ومراجعات للوثائق والاكتشافات الأثرية والمراسلات القديمة، تضاف إلى ما تمّ إنجازه؛ للتوصل إلى إجابات وقناعات متكئة ومستندة إلى نتائج تلك الجهود والدراسات.
وبهذه الكلمات الخانقة يختتم "سعود بن علي بن عبد الله الحارثي" : (في جميع الفنادق التي سكنّا فيها – بما فيها جزيرة زنجبار – نرى أعلام الدول المختلفة، بما فيها الدول الخليجية والعربية، ترفرف في مدخل تلك الفنادق، وفي مكاتب الاستقبال باستثناء العَلَم العمانيّ، الذي يُفترض أن يكون في مقدمتها، وكان الألم والغصّة يعتصران القلب على هذا المشهد المحزن، وعندما نطرح السؤال على موظفي تلك الفنادق عن أسباب غِياب العَلَم العُماني لا نجد إجابة على السؤال... فما الجهة المختصة التي تتحمّل هذه المسؤولية عن هذا الغياب الواضح؛ في مناطق كانت تحت السيادة والتأثير والوجود العماني، فكيف بغيرها من المناطق والبلدان إذًا؟)

تعليق عبر الفيس بوك