نصوص "الربيعي": تجليات الزمن المفقود وأسطرة الأشياء

...
...
...

حيدر عبد الرضا – ناقد من العراق

في هذه الإطلالة النقدية على بنية العالم الشعري في أعمال عبد الرزاق الربيعي ثمة كشف شبه واضح في طرائق نمطية الإجرائية البحثية، ولكننا أردنا بهذه الأدوات الإجرائية تحديدا إظهار، وإيضاح تعاملات وقصديات وموحيات قصيدة الشاعر مع ثقافة المصدر والمرجعية في تشكيل مناصاته الشعرية، بيد أن اللغة ما كان يتطلبها الشكل البحثوي نفسه في التعامل مع تلك الحالات المعرفية الشعرية المرجعية لدى الشاعر فلا يجوز أن تكون لغة الكلام المقالية.

إن طبيعة فضاءات قصائد الشاعر تطلبت استخدام تراكيب مفردية، ومصطلحية، ومفهومية، ومعيارية تبدو أكثر دقة وهي تسلط المزيد من الضوء على مستويات البنيانية الجمالية في النص لدى الشاعر الذي كان يوزع ذاته الأسلوبية، والموضوعية ما بين جذور موضوعة للنص المرجعي وبين تجربة الشاعر الذاتية والزمكانية، وحول السبب الذي دفعني لتناول تجربة الربيعي تحديدا كنموذج دراسي مستقل في مشروع كتاب، هو عشقي وحده لمكوناته التداخلية والظاهرية بين نمذجة الذات الشعرية، وبين موضوعية تكوين العلاقة الخاصة بمقصودات الواقعة الشعرية في مجالات المرجعية، ورموزها وعلاماتها وانثيالاتها التي راحت تتجلى لنا في صور قصائد الشاعر وكأنها مخطوطة (انثيال تأملي) يدخره العقل الباطن في تجربة توثيق البعد المرجعي والفكري للمحمول الانعكاسي الفائض من أفق المرجع وعلاقاته العضوية بمحددات الإضافة والخروج؛ بيد أن القارىء لكتابي الموسوم (القصيدة بين مرجعية الذات وحداثة المحتمل النصي) سوف يكتشف أنه لا يتعارض مع واقع صوت المرجع من جهة ما ولا من جهة خصوصية تصورات النص نفسه؛ بل بالعكس فإنها عنونة تضفي حالة من مسموحية بأن ذات الشاعر الخاصة تسمح في تعاملها مع النصوص المقدسة والتأريخية، أو أراجيز الحكايا الشعبية؛ بل إنها كانت تسهم في الوقت نفسه في إعادة صياغة وتحريك الأشياء بموجب مؤشر معرفية ذاتية خاصة من جهة الشاعر نفسه، كما وبالتالي تبقى حداثة المحتمل النصي في أسئلة الشاعر النصية، كحالة من حالات معطيات المعالجة الزمنية، والشعرية، وتحولاتها في صنيع تفاصيل حكاية القصائد كزيادة حيوية لا تقترن، وحدود الاستجابة الحقيقية في خطاب الواقعة الشعرية كفعل خارجي حصرا".

إن تجربة الشاعر عبد الرزاق الربيعي محكومة دائما في منبعها الشعوري، والنفسي والتكويني، والأسلوبي بمرجعية المادة القرآنية، والتاريخية، والأسطورية، والحكاية الشعبية الموروثة، غير أنها في الوقت نفسه في كافة جموحاتها، وجنوحاتها، وشفراتها، ومشاهدها، وإلهاماتها، وزواياها، أخذت تقدم لذاتها، وللقراءة شكلا كيفيا ما صار يرتبط وحدود التجربة الحداثوية في كافة أسئلتها وهمومها في آتون البحث عن طريقة ما للكشف الدلالي كوجه من شأنه أن ينسج علاقات وحالات ومواقف الخطاب الشعري بموجب مداليل عميقة التوكيد والسلامة الشاعرية، لتستعيد خوضها في كل مرة في اختراقية بنية الآخر ومدلوله، وموقعية نشوة رؤية الذات الشاعرة في فضاءات لائحة المصدر ويافطة المحاكاة وخلفية المثاقفة إضافة إلى تنويعة الاستفادة من تلك المرجعيات الحفرية.

فإذا ما اقتربنا من شكل الكتابة في نصوص الشاعر عبد الرزاق الربيعي لوجدنا ثمة خاصية تفاصيلية عجيبة في تذويب الواقعة الإحالية بين إيحائية القصيدة وقصدية علامات النص الدوالية ، كما وفي تذويب موضوعة التلقي الشكلي للنص عبر حدود محكى تفاصيل تأويلات الإمكانية الإخراجية الجاعلة من مادة الحلم الشاعري صفة ذات مؤشرات حادثية خاصة تشق لذاتها طريقا نحو لحظة جريان الحلم الشعري والتوصيفي على لسان شاشة تعليقات ملكات الشكل والمحتوى من زمن الدال الموجه في موحى اندماجي شيفري نحو محاكاة مرجعية تاريخية في جل بحوثها الاشتقاقية المستخلصة أصلا من جذور إجرائية واقعة نصية مصدرية التكوين والإزاحة المرجعية.

إن السؤال الشعري التوصيفي في عوالم تفعيل الواقعة الإحالية  بين إيحاء القصيدة وقصدية النص في تجربة عبد الرزاق الربيعي لاتستهدف في الحصول على الإجابة المعرفية بقدر ما تسعى الى كشف قابلية و فاعلية المرجع في دوائر حسية مبنى الداخل والخارج من زمن القصيدة، لذا نجدها بهذا الشكل وكأنها تقنية في الرؤية وحداثة السؤال وتمرين ناشط في دلالة عنوانية الاستمرارية والديمومة في هواجس الذاكراتية والمرجعية والحلمية وصولا إلى القيمة التعبيرية والتشكيلية والسيميائية الفائضة في مساحة استقلالية التجربة الشعرية الكاملة في مخزون النص الشعري.

إن من يقرأ للربيعي ربما يشعر بأن هناك زمنا مفقودا ، كما وهناك حالة ارتداد و اختفاء تدريجي لذبذبات زمن خاطرة الأفق والمدار والمحور في موضوعة النص. ولكن ضمور جريان الأشياء يتواصل نحو حدوثه الأسلوبي مشكلا فضاء أيقونة الدوال اللقطاتية البطيئة وصولا إلى زمن الخطاب مع زمن الأصل من مساحة مقدمات البحث عن هوية المنطوق المفقود في رحم ذهنية المضمر التخييلي المؤشر في لحظات الإضمارية الكيفية المجردة في صناعة القصيدة .

وهناك أيضا خصوصية تسود في نصوص الربيعي ذات تأثيرية خاصة تنحو منحى ما يمكن أن نسميه (الانفتاح الفضائي) و حفرية أسطرة المرجع المحمولي، و هذه الخاصية لو أطلعنا عليها طويلا لوجدناها محاكاة تجربة مديدة لحياة الملاحم والأساطير والمرجعية المقدسة والغوص فيها والأحتراق والانصهار في أبعادها التكوينية و ركائزها، وبهذا الصدد يقول (سندي): (إذن فالشعر هو فن من فنون محاكاة الأسطرة والأسطورة فهكذا يسميه أيضا أرسطو حين يستعمل لفظة ــ محاكاة ــ أي الانعكاس أو الرسم لأنطباعات الأشياء ونقلها عبر فضاءات اللابرهنة القياسية.

وهذا الرأي يبتعد بنا كثيرا و يحثنا الى القول الجدالي والمفهومي بأن فكرة (أسطرة الأشياء) ما هي ألا خطرات في نظرات التأليف الأصيل : الأسطرة والأسطورة نوعان، محاكاة النص الأسطوري القديم و محاكاة المنبع الجوهري والموضوعي في الأساس القولي المتناص والمنتخب في شكل وهوية النموذج المبرهن الانعكاسي في ناصية أفكار النصوص.

إذن فالفكرة في ماهية أسطرة الأشياء ما هي ألا ظواهر محاكاتية قد تشعبت بين الأصل و الصورة و بين الإيحاء المخالف لتلك الموضوعة الأسطورية في زمنها القديم .. وهذه الصيغة تبدو انعكاسية إذا ما قارناها بالمقابل من تجارب وأمثلة الفكرة الاستنتاجية الخاصة في مشروعية فنون المحاكاة و التضمين و الإيحاء.

فإننا عندما نقرأ نصوص الربيعي في جملة أعماله الشعرية نجد ثمة محاكاة بفكرة السعي وراء أسطرة الأشياء ضمن موجه قاعدة الإيحاء المخالف في التشبيه والوصف والتفاصيل والواقعة والعنونة، غير أن حدود المرجعية المؤسطرة في انطباعية فكرة الشاعر تبقى زمانا و مكانا مذابا في جسد إطلاقية الملفوظ والعلامة والتخليقية الدالة نحو واقعة غير مشخصة كيفيا ولا من جهة المحاكاة ذاتها بصلة وعنوان ذلك المنشور المرجعي القديم.

تعليق عبر الفيس بوك