قراءة في ملحمة: "وَسِراجًا مُنِيرًا"

...
...
...

أ.د. إيمان محمد الحَسَني – الجامعة الهاشمية - الأردن
إن الموقف لمهيب وأنا أخط تقديما لعمل ملحمي مبتكر موضوعه وفارسه سيد الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين، من تنيخ الروح في حضرة ذكره خشوعا، وتقصر أرشية الأقلام في سبر غوره مهابة وخضوعا، فتقصر الكلمات أمام رسوخ كعبه، وينعقد اللسان أمام تسامق مجده. كيف لا وامتداد الرجال بالولد، وامتداده المؤبد بالذكر المخلد؟ من أحبه نجا، ومن كفه ارتوى يوم الظمأ الأكبر، ومن أبغضه هلك وما أغنى عنه ما ولد وما ملك. لكن حسبي أجر المحاولة وشرف النية.
وأجدني ههنا ممتنة لوسائل التواصل الاجتماعي الالكتروني التي عرفتني بشعر "د. عمر هزاع" خارج الحدود والقيود، فعرفت فكره، ولامست إبداعه الشعري وسرعة بديهته اللذين كانا جواز عبوره ومفتاح مروره إلى ذائقتي النقدية، ذلك أن الشعر الحق ، والأدب الرفيع يأبى إلا أن يلج إلى القلوب والألباب، ويستثير المتلقي.
و(سراجا منيرا) ديوان للشاعر والصيدلانيّ السوريّ د. عمر جلال الدين هزاع, وهو في حقيقته بحث شعري غير مسبوق في السيرة النبوية المطهرة, ومفصل في قصيدة واحدة تجاوزت (1250) بيتًا من الشعر على بحر واحد وقافية واحدة لم تتكرر فيها لفظة واحدة على مستوى الروي في القصيدة كلها, تناول عبر صفحاته أحداث السيرة النبوية بتفاصيلها بحيث يمكن اعتماده كأحد الكتب الموثقة في رواية السيرة النبوية, لأنه مدعم بالمراجع المعتمدة المحققة (القرآن الكريم, كتب الحديث النبوي وأسانيدها, كتب السيرة المعتمدة, مراجع لغوية ومعجمية).
والشاعر" د. عمر هزاع " يمتاح شعره الفائق من بحر زاخر سواء في مفرداته أو تخيلاته أو تراكيبه.
إنه امتداد حقيقي جميل لأساطين الشعر العربي العباسيين ، بيد أنه امتداد المجدد لا المقلد، يتمثل شعرهم، ويقتبس من رؤاهم ومنهجهم ، لكنه لا يذوب فيهم ويتلاشى، فهو ابن عصره البار ومنحوت بإيقاعه ووقعه؛ مما جعل له بصمة خاصة تجمع بين الأصالة والحداثة. وكأن لسان حاله يقول قولة جده المعري:
ينافــــس يومي في أمسي تشـــــــرفا
وتحسد أسحاري علي الأصائل
 وإنــــي وإن كـــــنت الأخــــــــير زمــانه
لآت بمـــــا لـــــم تستطعـــــه الأوائل
                 
وقد تأكدت لي هذه الرؤيا النقدية التي أسررتها في نفسي عندما شرفني بالاطلاع على ما دبجته يراعته في ".... وسراجا منيرا " فأبهرني ماقرات، وقراته غير مرة، فوجدته عملا فريدا معجبا بكل ما تعنيه الفرادة، فقد ركب الشاعر مركبا صعبا لا يتأتى إلا لملهم تجتمع فيه: العقلية العلمية المنطقية والمعرفة التاريخية حد التشرب ، والشاعرية التي تستند إلى ملكة لغوية معجمية واسعة ، والمعرفة بالدراما وتقنياتها.
إنه عمل يجمع بين تسامي روح الشعر المجنح وتجليات العقل في نقل حقائق تاريخية ومفصلية في سيرة سيد المرسلين العطرة. كل ذلك بلغة متوازنة عجيبة تقنع عقل المتلقي دون أن تستلب روح الشعر وجمالية البناء، وروحانية الموضوع.
إن هذا الإبداع هو جنس أدبي فني غير مسبوق في الأدب العربي، تولد ناضجا من فكر مؤلفه وربما في الأدب العالمي الذي عرف الملاحم الشعرية كما في الإلياذة والأوديسة المنسوبتين لهوميروس، لكنه مزج فيها التاريخ بكثير من الأساطير والخرافات، عبر عصور متتالية فلم يبق النص لمؤلف واحد، بل تلقفته يد اللاوعي الجمعي وأضافت إليه ما أضافته آمال الأمة وآلامها إلى القصة الشعبية في أدبنا. في حين أن ما يميز هذه الملحمة أنها تاريخ حقيقي، لشخصية حقيقية ولأحداث حقيقية بكل تفاصيلها، مؤلفها واحد، تصطبغ بروحه نصا متجانسا محكم النسيج.
أما اللغة التي كتبت بها فهي توائم بين عراقة العربية، فيعمد الشاعر  إلى " تمعين" اللفظة، أي إحياء دلالتها كما استعملت في زمانها، و"تمكين" اللفظة بتبيان معناها في الهامش؛ لإنعاشها في ذاكرة المتلقي المعاصر، فتدخل في كفايته اللغوية بغير مشقة، كما يعبر أيضا بأخيلته ورؤاه وتحليله عن روح عصره ، فجمع بذلك بين الرصانة والحداثة.
إن من شأن هذه الملحمة إن قُدِّرَ لها أن تقدم بوسائل التقنية الحديثة للقارىء العربي والمسلم أن تحقق أهدافا جليلة. منها:
أولا - تسهل حفظ سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شعرا، خاصة أنها جاءت كاملة على البحر والروي نفسيهما وهذا جديد كل الجدة في هذا النوع من الشعر القصصي والملحمي لا تقاربه حتى أطول الدواوين المحلمية - كديوان مجد الإسلام لأحمد محرم لأن الأخير اكتفى بالحديث عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتوسع إلى تفاصيل السيرة النبوية إضافة إلى أنه لم يلتزم كما فعل الأول بوحدة الوزن والقافية في فصول ملحمته - وهذا في حد ذاته تحد وإبداع فائق ينم على غزارة ملكة المؤلِّف .
ثانيا - إثراء معجم القارىء بألفاظ عربية عريقة عميقة، وتسهل عليه بشرحها وتبيان معانيها، مما يقرب بين العربية وأبنائها ومتعلميها لوجودها في سياقات استعمالية.
ثالثا - إمتاع المتلقي بالانزياحات الجمالية والأخيلة؛ مما يرتقي بذائقته، وربما أفرد له دراسة نقدية متأنية.
رابعًا - إنه يؤسس لصنف جديد في الأدب العربي، ويفتح بابا أمام الطامحين من المبدعين لإكماله بملاحم تاريخية تتناول مابعد عصر النبوة؛ مما يسهل على القارىء استكناه أبرز الأحداث المفصلية في تاريخ الأمة، وقد تمتد إلى العصر الحديث . وهو ما يفتقر إليه الجيل الجديد في زمن الدوران في فلك ودوامة العولمة، والذوبان في النمط الغربي، وانسلاخه عن ذاته. والحقيقة أن من لا يعرف تاريخه، ويستلهم منه العبر ، ويستجلي منه خطةً للمستقبل هو تابع ينزلق في هاوية الجهل والتجاهل والتجهيل والمجهول. ولعل "... وسراجا منيرا" هي رد عملي يحاول أن يعيد إلى الأمة روحها، وهويتها وثوابتها فتنتصر لذاتها بانتصارها لنبيها فتحيي ذكره فيها، قولا وفعلا، تاريخا وأدبا.
وفي الأخير أهنىء نفسي، وأهنىء المبدع الملهَم "د. عمر هزاع " على ما حباه الله من مزية ومنزلة بأن ألهمه وفتح عليه بهذا الفن، ويسره له على الرغم من الظروف الحالكة التي ولد فيها. وأسأل الله أن ينفع به الأمة، فتستنير به في دلجة الفتن، وأن يثقل به موازينه، وأن يوزن حبره بدم الشهداء يوم تطاير الصحف.
..............................
*** "... وسراجا منيرا" ملحمة شعرية مطبوعة هذا العام 2017 على نفقة نادي الباحة الأدبي في المملكة العربية السعودية, بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي في لبنان- بيروت,قام بتأليفها ونظمها ومراجعتها: الدكتور عمر هزاع وهو شاعر وصيدلاني سوري من مواليد دير الزور 1973م. له أكثر من (800 ) قصيدة منشورة بعضها ترجم للإنجليزية والفرنسية, وحاصل على عدد من الجوائز الدولية في عدة مهرجانات ومسابقات أدبية.

تعليق عبر الفيس بوك