في بيتنا ضيف ثقيل

تهى العبريّة

لفت انتباهي وأنا أُقلّب ألبومات قديمة لوالديّ - حفظهم الله - وهم في الصغر، صور كثيرة ومتنوعة تجمعهم ليس فقط بإخوانهم أو أبناء عمومتهم وخالاتهم؛ بل حتى جيرانهم وأصدقاء تعرفوا عليهم لفترة مؤقتة لظروف العمل، حرَّكتْ الابتسامة التي ارتسمت في صور الجميع والبساطة التي كانوا عليها والتجمع الغفير الباهر داخلي نوعًا من الحس الإنسانيّ المفقود حالياً في مجتمعاتنا العربية.
فإذا ما رجعنا للوراء قليلاً لرأينا جهد آبائنا وأجدادنا في غرس القيم والعادات والتقاليد وتكاتفهم؛ كم ساعدت هذه العادات والقيم في تهذيب سلوكهم وتوجيه طاقاتهم في المكان الصحيح، فقد كانوا يعيشون قبائل وجماعات متقاربة حياة بسيطة سمتها الاتحاد والترابط والتآلف في السراء والضراء، وجعلوا من القبيلة جسداً واحداً تربطها صلة الرحم لا تنقطع، فالأسرة في حقيقتها وحدات متفاعلة من الأفراد وهي الكاشف للطبائع والسلوك، ويقع على عاتقها مسؤولية توظيف الطاقات وبناء جسور التكامل في جوانب الحياة كافة، كلُ عضو فاعل فيها يعرف الرسالة ويفهم الهدف ويعلم الواجب.
لكنْ في خضم الانشغالات اليومية، والأعباء المعيشية، وحصار التكنولوجيا، بات أغلب الناس متباعدين وفُرادى داخل البيت الواحد، حيث نالت الأجهزة الذكية الاهتمام والرعاية  الأولى، فترى الآباء والأبناء على مائدة طعام واحدة والكل منشغل مع هاتفه وواقعه الافتراضي؛ فلا نقاش ولا مداخلة أو مشاركة فقد أضحى الجميع محاصرين داخل قوقعة وله قائمة من الأولويات والمسؤوليات وتباعد الأقران، وافترق الأقربون، واكتفى الجميع برسالة واتس أب، وتقطعت صلة الأرحام، وعبارة : "أنا مشغول" سرقت منا لذة السعادة الحقيقية التي تحصل بتجمع الأهل وتآلفهم.
طمست تكنولوجيا الاتصال غالب العادات والتقاليد الأسرية المتوارثة وأصبحت الأجيال الجديدة، خارج نطاق السيطرة الأسرية بعد أن تخلت الأسرة عن تربيتهم وتركت هذه المهمة لتكنولوجيا العصر وأجهزة الذكاء الاصطناعي والفضائيات وبرامج الهواتف النقالة. وقد أوضح عالم النفس الشهير "سيجموند فرويد" أن السنوات الخمس الأولى للطفل حاسمة في التكوين النهائي للشخصية الإنسانية، وأنّ النمط السلوكي الذي يربَّى عليه له الأثر الأكبر في تحديد شكل شخصيته في المراحل اللاحقة وبالتالي كل فرد يعكس الحال الأخلاقية لأسرته وما يكتسبه من منظومة قيمية كفيلة باكتشاف صورته المستقبلية . وكما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا           على ما كان عوده أبوه
وقد أثبتت إحدى الدراسات أن الأفراد الذين يقضون وقتاً طويلاً على برامج التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو هم الفئة المعرضة لمشاكل العزلة الاجتماعية والاكتئاب والقلق والانحراف والفشل في إقامة علاقات اجتماعية أو تراجع نسبة احترام الذات.
إنّ العلاقات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية التي يتم بثها في نفوس الناشئة، مثل اللقاحات الوقائية التي تشكل حائط صد أمام جحافل الفيروسات؛ إذن فالإنسان كائن اجتماعي بالفطرة خُلِقَ كي يعيش مع غيره والعزلة قد تسبب أمراض نفسية.
وعالم الانترنت بحر واسع متشعب والسباحة فيه لأوقات طويلة تُدخل الفرد في لُجَّة الإدمان الالكتروني الذي يستحوذ على إدراكهم العقلي الكامل للأفراد، ويحبب إلى قلوبهم فكرة البقاء وحيدين ومنعزلين فقد وجدوا عالما واسعاً وملاذا آمنًا بعيدا عن حقيقة الحياة وعالمها المخيف، وهذا الإدمان يسرق منهم ممارسة هواياتهم فضلا عن مشاكل اجتماعية كثيرة انتهت بالانتحار والقتل والسرقة والابتزاز وحالات طلاق أيضاً.
كما أكدت بعض الدراسات أنّ فئة الأطفال والذين يقضون وقتاً طويلاً مع الأفلام الكرتونية والتي تقودهم إلى العزلة وأصبحوا أسرى " الآيباد" الذي استحوذ على عقولهم؛ فقد احتلت هذه الأجهزة مكان الكِتَاب "خير جليس" بدون إدراك المخاطر الصحية التي قد تتسبها من ضرر في العين وآلآم العمود الفقري والتأثير على التغذية حيث يكون الفرد مشغولاً لفترات طويلة وقد يتجاوز موعد الوجبات ليتناول شيئاً سريعا لاحقاً.
وفي دراسة أجرتها منظمة "أنقذوا الأطفال" العالمية، على معلمي المرحلة الابتدائية في بريطانيا، تبين أن تكنولوجيا الاتصال الحديثة خلقت جيلاً من الأطفال يُعاني من الوحدة وعدم القدرة على تكوين صداقات. وجاءت النتائج بعد استطلاع أجراه الباحثون على عينة من 100 معلم، وأكدت النتائج أنّ 70% يقضون وقتا طويلا مع شبكة الإنترنت وأنّ الأجهزة الالكترونية تؤثر سلباً على مهارات الأطفال الاجتماعية، وتتدهور قدرة الأطفال على تكوين علاقات اجتماعية في السنوات الأولى ويصبح لديهم عوائق أمام تكوين علاقات اجتاعية على المدى البعيد وفي المستقبل.
ومن ثَمَّ يتوجَّب على أولياء الأمور صياغة بعض الضوابط الداخلية في البيت للسيطرة على الوضع وضمان عدم ضياع أطفالهم وغياب الترابط الأسري. وأول هذه الواجبات أن يكون الوالدين هم القدوة والمثل من خلال التقليل من استخدام الأجهزة الذكية وقضاء وقت أطول وممتع مع أطفالهم وفتح مواضيع ثرية للنقاش والحوار فهذا يساعد على بناء شخصيتهم والثقة بأنفسهم، ثم حاول تشجيعهم على الالتحاق بالأندية الرياضية وممارسة هواياتهم في البيت أو المشاركة في برامج تدريبية تنمي مواهبهم وبإمكانك تحديد ساعات وأوقات معينة لاستخدام الأجهزة الذكية وفق حدود وضوابط مقننة.
عزيزي الأب وصديقتي الأم: إنَّ من ينعم بأسرة ليس من حقه أن يبيعها للأشغال، فلحظات العمر تمر سريعاً وترى ابنك/بنتك صاروا كِبارًا بعد أن ضيّعت الكثير من الوقفات الجميلة التي لا تستطيع أن تعيدها، وقد يهرم والداك ولا يقدران على مجالستك بالقوة والصحة نفسها التي كانوا عليها أيام انشغالك، وقد يغادر دنياك عزيز؛ زوج أو زوجة وتصبح نفسك تواّقة للأيام الخوالي لإصلاح ما كان؛  فلتحافظ على أسرتك ونراقب أبناءك وتجمع لهم بين عالم التطور التكنولوجي والجو العائلي اللطيف وفق ضوابط مشروطة لتعيش سعيدا، وناجحًا في عملك وبيتك، فغداً تغدو شامخًا بما صنعتَ فيهم من معروف.

تعليق عبر الفيس بوك