الدراسة في الغرب ودرجة التدين (2)

 

د. راشد البلوشي

ويكون كذلك دائمَ التساؤل عن المغزى من الأحكام الفقهية؛ فمثلا: لماذا جَعَل الله الزكاة من أركان الإسلام رغم أنَّ في ظاهرها إنقاصًا لمال المسلم.. يقول العلماء إنَّ الله أوْجَب الزكاة ليطهر مال المسلم من أي نسبة أو جزء منه كان قد اكتسبه المسلم دون أن يستحقه، كأنْ يكون قد تأخَّر عن العمل، أو أن يكون قامًا بأعماله الخاصة في وقت العمل، أو أنقص الميزان دون قصد، أو باع شيئا بأعلى من قيمته الحقيقية.

طبعاً لا يحتاج المسلم إلى شِهادة في الدراسات الدينية أو إجازة دينية للتفكير والتأمل والتدبر في خلق الله، وفي كلامه، وفي أحاديث نبيه الكريم، وفي أحكام دينه، ما لم يخالف تفكيره أو تفسيره نصوصًا دينية أو أحكامًا فقهية، ولم يَسْعَ إلى فرض نتائج تفكيره وتدبره وتفسيره على الآخرين. وهذه الطريقة في التفكير والتأمُّل في الأحكام الفقهية تقُوْد الطالب المفكِّر إلى حقيقة أنَّ الأحكام الفقهية -رغم صعوبتها في بعض الأحيان- هي حماية للإنسان (قرَّرها الإلهُ الذي خَلَق الإنسانَ، وعلَّم أزلا ما ينفعه وما يضره)، وضمان لسلامته وليست تقييدًا لحريته ومنعًا له من التمتُّع بملذات الحياة الدنيا. وأنَّ هذا الدين ليس دينَ طقوس وكهنوت وشعائر يصعُب فهمها وتعليلها، وإنما هو دين عبادات شَرَعها الشَّارع الحكيم من أجل مَصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة. ونقول إنَّ هناك الكثيرَ من الحكم والمنافع من الأحكام الشرعية والفقهية التي لم تستطع عقولنا البشرية حتى الآن استنباطها أو فهمها أو تحليلها أو تقديمها للمسلمين أو للمشككين في هذا الدين الحنيف. وسيظل العلماء يبحثون في هذه الحِكم ومنها ما يجليه الله لهم وهم يبحثون في أشياء وأمور أخرى، عن طريق الصدفة. ولا نقول هنا بأنه لا بد من وجود تفسير علمي وتعليل مخبري لكل حكم شرعي؛ فهناك من الأحكام ما لا يمكننا فهمه وتعليله (مثل عدد ركعات الصلاة)، ولكن يجب علينا في جميع الأحوال أن نؤمن بأنه أمر من الله تعالى يجب علينا تنفيذه، وإن لم نستطع فهمه أو معرفة الحكمة منه. فطُرق تفكيرنا ووسائل بحثنا لا تزال قاصرة أمام التشريع الإلهي.

ولكن، لماذا الرَّبط بين الدراسة في الدول الغربية وتسامي حالة التدين؟ السبب هو أنَّ الدراسة في الجامعات الغربية القوية لا تتبع الوسائل التقليدية والطرق العقيمة للتدريس والتعلم التي تعتمد على الحفظ والتلقين والتقليد وتدوير المعرفة الإنسانية دون المساهمة في إثرائها، بل تعتمد أساليب ثورية تجديدية مثل التي اتبعها أسلافنا العرب والمسلمون في زمن ازدهار الحضارة الإسلامية حيث أخذوا العلوم والفنون من فلاسفة الإغريق وعلمائهم وجددوها وأضافوا إليها الشيء الكثير حتى اعتبرهم الغرب أرباباً لهذه العلوم كابن سينا والزهراوي في الطب، والخوارزمي في الرياضيات، وابن خلدون في الاجتماع وجابر بن حيان في الكيمياء...وغيرهم في شتى العلوم الإنسانية. وبالتالي؛ فإنَّ طرقهم تعتمد على أن الدراس قادر على التعلم بنفسه وكل ما يحتاجه هو القراءة والإكثار من القراءة في مجال تخصصه إلى أن يكتشف بنفسه المشكلة التي يريد حلها أو السؤال الذي يرغب في الإجابة عنه. وهنا يحتاج إلى التوجيه والإرشاد. لذلك؛ فإنَّ الدارس يحتاج أن يُدرك حقيقة أن نتائج البحوث في العلوم التجريبية قابلة للتغير والدحض إذا ما استطاع الدارس أن يصمم بحثا أفضل، أو أن يطرح السؤال بطريقة أفضل. يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي (وهو مؤسس علم اللغويات الحديثة): "لم أكن أعرف خيارا آخر غير التحقق عن ماهية كل شيء". ونقول: "إذا كان عقل الإنسان قادرا على أن يأتي بسؤال وجيه، فإنه -وبلا شك- قادر على أن يأتي بإجابة مقنعة".

وللأسف الشديد، فإنَّ مثل هذه التجربة التعلمية والبحثية الثرية نَدُرَ وجودها في كثير من مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي لأسباب متعددة؛ منها: هجرة العقول العربية إلى الخارج (بحثا عن حرية الإبداع والتشجيع المادي)، وقلة ما يصرفه العرب على البحث العلمي وتشجيع الابتكار (مقارنة بما يصرفونه على الترفيه مثلا)، ومنها انتشار ثقافة "تأدية الواجب" (أو "أكل العيش") في مجال التعليم من خلال تلقين الطلاب محتويات الكتب الدراسية حتى ينجزوا المقررات الدراسية وينجحوا في الامتحانات (دون تشجيعهم على نقد محتويات الكتب والإتيان بما يرونه أفضل وأكثر إقناعا)؛ ومنها: رغبة بعض ضعاف النفوس في أن يحافظوا على مراكزهم الوظيفية فيقومون بكل ما من شأنه إنتاج جيل من الخريجين يتصف بضعف المستوى وعدم القدرة على التجديد، فلا يتم استبدال هؤلاء الأساتذة (إلا بمن يريدونه ويزكونه هم). لذلك؛ فإنَّ من شأن الدراسة في الجامعات الغربية العريقة تنمية شخصية الطالب المسلم وزيادة وعيه وإدراكه للعالم المحيط وثقافاته المختلفة ورفع مستوى النمو الوجداني لديه، وكذلك زيادة درجة التدين لدى الطالب المسلم من خلال تقوية الحالة الإيمانية لديه؛ حيث تجعله تجربة الدراسة أكثر اقتناعا بمبادئ الدين الحنيف وأحكامه الشرعية والفقهية، بعد أنْ أدرك حقيقتها والغرض من تشريعها، والسبب في أنها بالكيفية التي وصلتنا من عهد البنوة وعهد التابعين وليست بكيفية أخرى. وعندها، ينتقل الدارس -بعبادته لله تعالى- من مرحلة العادة (التي أسستها الأسرة)، إلى مرحلة العبادة الحقة (التي اقتنع بها هو). وباختصار.. فإنَّ فائدة الدراسة في الجامعات الغربية القوية هي تقوية الإيمان بأنَّ كل شيء له سبب وحكمة، وعلينا أن نحاول إيجادها.

 

* أستاذ اللغويات المساعد - جامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة