التسامح والضعف

زاهر المحروقي

خُطبة الجمعة الماضية تناولتْ موضوع الاختلاف والتنوُّع وضرورة التسامح، وهو موضوع سبق تسليط الضوء عليه في خُطب الجمعة.

والواقعُ أنَّ العُمانيين طبَّقوا -عبر تاريخهم الطويل- سياسة التسامح على المستوى الشعبي والرسمي؛ إذ إنَّ صفة التسامح سمة من سمات العُمانيين. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، رغم وجود بعض الحالات الشاذة عن ذلك والتي تكاد لا تذكر، وهذا أمر طبيعي يجب ألا يؤثر على السياق العام لهذه السياسة. ولا يحتاج أن نعيد ونكرر في ذلك وكأننا نريد أن نقنع أنفسنا بأننا متسامحون، إلا أنَّ الإشارة إلى السيد سعيد بن سلطان سلطان عُمان وزنجبار (1806-1856م)، قد تكون مهمَّة في سياق مقالي هذا؛ حيث سبق لي وأن كتبتُ مقالا عن التسامح الذي اتسم به عهده، وأشرتُ فيه إلى أنَّ من أسباب نجاح السيد سعيد في حكمه، تطبيقه لمبدأ "التسامح وقبول الآخر"، مهما كانت خلفية هذا الآخر العرقية أو الدينية أو المذهبية؛ وهي الميزة التي استمد منها العُمانيون مبدأ التسامح وقبول الآخر، لأنَّ ذلك ما طبَّقه حكامُهم في حقب وعصور مختلفة، ممَّا أوجد مجتمعًا متجانسًا وموحدًا، وظهرت نتائجه حتى في العصر الحديث الذي تموج فيه الدول بالفتن والتناحر.

ولكن: هل يجب علينا أن نترك الواقع وننساه ونكتفي بالتغنِّي بالتسامح الذي عاشه ويعيشه العُمانيون؟ هناك متغيراتٌ كثيرة على أرض الواقع تحتِّم علينا أن ننظر إليها بعين الواقع؛ فالتغنِّي بالتسامح زاد عن حدِّه. وما زاد عن حدِّه قد ينقلب إلى ضده.

هناك خيط رفيع جدًّا بين التسامح والضعف. فالتسامح الحقيقي دائمًا يأتي من القويِّ الذي يستطيع أن يأخذ حقه ومع ذلك يتسامى ويعفو، وهو المعروف بالعفو عند المقدرة. أما الضعف هو أن يتغنَّى الإنسان بالتسامح، في وقت لا يستطيع أن يأخذ فيه حقَّه بنفسه، فيكون التسامح المزعوم بابًا للتهرب وتغطية لذلك الضعف. لذا؛ يرى كثيرون أن التسامح المُبَالغ فيه ليس إلا ضعفًا، قد يؤدي إلى التنازل عن الحق. وهذا ما أخشاه الآن في عُمان، أن ينشأ جيلٌ مستعدٌ للتضحية بالمبادئ والثوابت الوطنية لأنه تربى منذ نعومة أظافره على سماع كلمة "التسامح" بسبب وبدون سبب، وكأن التوجيه يريد أن ينقل لهذا الجيل قول السيد المسيح عليه وعلى نبينا السلام: "إذا ضربك أحدُهم على خدك الأيمن.. فأدر له خدك الأيسر، وإذا أخذ أحدُهم رداءك فأعطه إزارك"؛ وهو المبدأ الذي لم تطبقه المسيحية أبدًا في تاريخها، إذ لم تترك العالم يعيش بسلام، بعد أن أشعلت الفتن والحروب في الدنيا، أزهقت فيها أرواح الملايين من الأبرياء.

تقول إيزابيل بنيامين ماما آشوري، وهي باحثة في شؤون الأديان، إن كلمة السيد المسيح تلك، تتعلق بوقت معين كان فيه أتباعه في بداية الدعوة، ضعفاء قليلي العدد والعُدة، فخشي أن يتخطفهم الناس من كل جانب، لذلك أوصى سيدنا عيسى عليه السلام أتباعه بأن يكونوا مسالمين ولا يردوا على أحد. ولكن عندما زاد الجور على المؤمنين -حسبما تقول الروايات- قال لهم سيدنا عيسى: ألم تعلموا أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؟. قالوا له: أنت الذي أمرتنا أن ندير الخد لمن ضرب، ونعطي الرداء لمن أخذ. فقال لهم: نعم.. أنا أمرتُكم بذلك، لكني لم آمركم أن تفعلوه إلى الأبد، ولم آمركم أن تفعلوه مع الساقطين المجرمين الذين لا يعرفون معنى المحبة والرحمة والتسامح. قالوا: وماذا علينا أن نفعل الآن؟ فقال: الحق الحق أقول لكم: من لم يكن عنده سيفٌ فليبع ثوبه وليشترِ بثمنه سيفاً. عندها فهم المؤمنون رسالة المسيح وقالوا: الآن حصحص الحق.

وأعتقد أنَّنا نحتاج أن نعلِّم أجيالنا هذه القصة حتى تكون عبرة لهم. فليس معنى التسامح أن نتنازل عن العزة والكبرياء، ونكون مستعدين لبيع أي شيء والتنازل عن الحق؛ لأن هذا مؤشر خطير قد تدفع الدولة ثمنه مستقبلا. فالإنسان العُماني أصلا هو إنسان مرن وطيب ومتسامح، فلا يحتاج الأمر إلى كثرة العزف على هذا الوتر. فالتسامح يجب أن يكون له حدود، ولا يجب أن يتسامح المجتمع ويتساهل مع التعصب الذي قد يجر معه الدمار، خاصة أننا نعاني من كثرة الفتاوى التكفيرية ضد العُمانيين، التي تصدر ممن يُفترَض ويُعتقد أنهم أشقاء، تحت سمع وبصر حكوماتهم. ووصل الأمر ببعضهم أن يأتوا إلى عُمان ويثيروا الفتن فيها -كما أثاروها في كل مكان وصلوا إليه- ولم نر استنكارًا من سفارات بلدانهم، وهي السفارات التي تقف بالمرصاد لكل حرف نكتبه.

حقيقةً.. نحتاج إلى إعادة صياغة مفهوم التسامح من جديد. فما أراه هو أن المسألة مبَالغٌ فيها أكثر مما يجب، وينبغي التقليل من التركيز عليها، وذلك بالتركيز على مبدأ التسامح العملي. فهناك مؤشرات لا تطمئن خاصة في الناحية المذهبية، وهي فتنة إذا انطلقت من عقالها فإنها ستأكل الأخضر واليابس كما حدث في مجتمعات كثيرة في العالم أكبر وأقوى منا. وفي ظني أن هناك أولويات يجب أن تهتم بها الحكومة في الداخل أكثر من الاهتمام بقوافل التسامح التي تجوب العالم، فلا يُعقل أن يغيب أئمة المساجد عن أداء واجباتهم وتبقى المساجد بلا أئمة ولا انضباط، في وقت نُظهر للعالم التسامح العُماني.

لا ضير في الاختلاف أبدًا، ولا ينبغي أن نتنازل عن اختلافنا مع الآخرين في عاداتنا وتقاليدنا ولباسنا ولهجتنا وغير ذلك تحت مسمى "التسامح"؛ فالمطلوب أن يحترم كل إنسان من اختلف معه. فاختلاف العلماء يجب أن يكون رحمة للأمة، والاختلاف بين الناس يجب أن يكون مصدر إثراء لا مصدر اقتتال. ولا ينبغي أن نطلب من العُماني أن يكون متسامحًا على حساب مبادئه ووطنه فيما يسرح الآخرون ضد هذا التسامح.