الاقتصاد الريفي (2)

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

 

تناولنا في المقال الأوَّل مضامين عامة عن هموم الاقتصاد الريفي في السلطنة وركزنا على أهمية تدعيم القيم الأخلاقية للمجتمع والاقتناع بأنها موروث اجتماعي واقتصادي هام يجب الحفاظ عليه لكي نمضي إلى الخطوات الأخرى في مرحلة مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجه الدول النفطية من جراء تذبذب أسعار النفط. لقد تلقيت الكثير من الرسائل عبر حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي وتبين لي أن مصطلح القيم الأخلاقية غير واضح للكثير من رواد تلك المواقع ولهذا وجدت لزاماً عليَّ أن أعرف هذا المصطلح بلغة سهلة تصل إلى الجميع في هذا المقال.

القيم الأخلاقية مستمدة من الإرث الثقافي المُتراكم للمجتمعات وترتكز على الاستقرار العقائدي والإيمان بالله وحده لا شريك له والسير على نهج الاستقامة الذي نقله لنا رسله عليهم السلام جميعاً، عندما تهدأ النفس البشرية ويستقر إيمانها تعظم السلوكيات الإيجابية وتنبذ أهواء ونزعات الشر والفساد فتصبح المجتمعات منتجة وتساهم في عمارة الأرض وتضع لنفسها مكاناً في سجل التطور البشري، كل الكتب السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى تحث على عمارة الأرض والبعد عن إفسادها، والأمر ذاته ورد في جميع السنن والأعراف السوية التي وضعها البشر للاحتكام إليها فيما بينهم وبنيت عليها القوانين فيما بعد.

عندما نعود لموضوعنا عن الاقتصاد الريفي نجد هناك الكثير من المغالطات التي يجب إزاحة الستار عنها وتصويبها إن أمكن فالريف يمثل السواد الأعظم من مساحة بلادنا وسكانه ليسوا أقليه كما يُشاع، نعم حدث نزوح لأمهات المدن من أجل الحصول على فرص عمل وهذا أمر طبيعي بعد أن تم تهميش ما تقدمه تلك المجتمعات من خدمات والنظر لأنشطتها على أنها عالة على الدولة ولكن العودة للبلد في نهاية كل أسبوع هي المحطة الأبرز وهذا دليل على تمسك ابن عُمان بما تبقى من قيمه الأخلاقية في قريته النائية، لكن والديه الطاعنين في السن بات كل نشاط يقومان به في زراعة النخيل، ورعي المواشي، وصيد الأسماك غير مجدٍ في النظرة الشمولية للمجتمع ولهذا تراجعت مؤشرات الإنتاج الريفي وهجر الناس قراهم إلى المجتمعات المدنية بعد أن تم وقف ساعة الزمن الريفية.

ولعله من الجدير بالذكر أن نسوق مثالاً لتوضيح ما أشرنا إليه فمحافظة ظفار تزخر بثروة حيوانية جيدة، والطبيعة لا زالت توفر جزءا مما تحتاجه تلك المواشي، والإنسان الريفي متمسك ببيئته وثروته التي ورثها عن أجداده، وكل تلك النقاط مكامن قوة يمكن أن يبنى عليها اقتصاد ريفي منتج لكن كل تلك الأمور يتم قراءتها بشكل مقلوب تماماً، فالمراعي تتدهور دون إيجاد حلول، ويصور ذلك الريفي الذي يلاحق ما تبقى من موروثه بأنه الشيطان المدمر للبيئة، وبأنه رمز للتخلف، ولكي يكون مقبولاً ومتطوراً يجب عليه التخلص من كل تلك القطعان التي أصبحت تشكل نظرة غير حضارية، ويحل ضيفاً غير مُرحب به في المدن المتطورة.

على هامش ندوة التصحر التي عقدت بأوامر سامية في مارس 2002 وبارك المقام السامي توصياتها وضعت خطة متكاملة لتحويل النشاطات الاقتصادية الريفية إلى منتجة لكي تساهم في رفد خزينة الدولة، ونذكر من مرتكزات تلك الندوة إقامة مصانع لمشتقات الألبان وأخرى للحوم، وتقنين عملية الرعي عبر ما يعرف بالحمولة الرعوية التي تستوعبها المراعي. وإلى اليوم وبعد مرور أكثر من 15 سنة لم تقم المصانع المنتظرة، باستثناء ظهور العام الماضي بريق أمل لإقامة مصنع لمنتجات الألبان في ظفار ولكنه توقف في أدراج وزارة الزراعة حتى تم تقزيم الفكرة وتسليمها لشركة تحتكر صناعة الألبان منذ نصف قرن تعتمد على استجلاب الأبقار عبر البحار بينما ينتج المربون المحليون كميات كبيرة من حليب الإبل والأبقار عالي الجودة لا مكان له في السوق المحلي، وظلت تلك الشركة تلتهم كل الأفكار التي تهدف لوجود منافسين جدد سواء في مجال الألبان أو صناعة الأعلاف الحيوانية، كما لم تقنن المراعي ولو فعلت توصيات تلك الندوة لكانت تلك الأنشطة اليوم تساهم في الاقتصاد الوطني المتراجع، ولأصبح ذلك الريفي الذي يكابد متاعب الحياة للإبقاء على ثروة وطنية يحمل همها وحيداً أكثر رفاهاً واستقراراً.

كانت لي مداخلة هاتفية مع برنامج رؤية اقتصادية الأسبوع الماضي الذي يقدمه الخبير المميز أحمد كشوب ومحور حلقته حول الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي وتمت استضافة شخصية ذات خبرة اقتصادية عالية وتعرف مكامن القوة والضعف في الاقتصاد الريفي، وعرجنا على شركة مروج للألبان التي يتوقع منها استقبال الألبان من مربي الإبل والأبقار في ظفار وتصنيعه وتسويقه، وكان الهاجس لماذا وضع المشروع قيد التجربة المرحلية؟ في حين كان متوقعاً أن دراسة الجدوى الاقتصادية تزيل أي غموض في الأمر ولماذا لم يتم البدء في إنشاء المصنع المستقل للشركة التي خصصت لها الأرض ورصد لها الدعم المالي المقرر من الحكومة؟ ولماذا تم منح شركة أعلاف ظفار صاحب الحق الحصري لإنتاج وصناعة الألبان في السلطنة حق التصنيع وهي شركة منافسة في السوق المحلي والخليجي مؤخراً؟ هل ستتنازل طواعية عن جزء من سوقها لمنتجات شركة مروج الوليدة؟ !!!! ما لفت انتباهي هو رد الضيف الحازم الذي يرى من خلاله بأن كل ريفي هو راعٍ وليس له حق مُناقشة الأمر عليه أن يستجيب فقط من خلال جلب حليبه وأخذ المُقابل المادي وعليه أن يتقبل كذلك الخبر غير السار بعد حين بأنَّ التجربة كانت فاشلة وعليكم أن تشربوا حليبكم الصافي أيها الريفيون لتنعموا بحياة صحية أفضل!!!!  

لماذا لم تنفذ المصانع التي تدعم الاقتصاد الريفي؟ ولم تقنن المراعي لحماية خصائص البيئة الطبيعية؟ ربما تم إرجاؤها إلى أن ينقرض ذلك المخلوق المزعج !!!!

alikafetan@gmail.com