لقاء استثنائي لأبناء الخليج في صلالة

 

د. سيف بن ناصر المعمري

كانوا يجلسون على طاولات مُتجاورة في هذا الوقت الاستثنائي من السنة حيث السُّحب تحجب الشمس التي تجعل بقية أجزاء الخليج لا تطاق؛ يجلسون في هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الخليج المُعاصر؛ حيث التشنج بلغ مدى لم يتوقع أحدٌ أن يصل إليه الخليج، خليجيون يجمعهم مقهى واحد في صلالة التي تحتفل كل صباح بحياة مُختلفة عن بقية المدن في الخليج، وما أجمل أن تتغلب إرادة الحياة على نوازع الموت.

يجلس هؤلاء الإخوة ولا شيء يعلو على الفرح الذي جاءوا به صغيراً قبل أن يصعدوا به الجبل الذي يشقون به الضباب وكأنّه ستار لابد منه لكي يشعروا أنهم انتقلوا بين عالمين مُختلفين لكل منهم أثره العميق ودلالاته التي لابد أن تستحضر حتى نفهم ما معنى أن تجمع محافظة صلالة أبناء الخليج معًا في وقت باتت بقية المدن الخليجية مغلقة في أبواب بعض الخليجيين، وحتى نفهم ما معنى أن يلجأ كل هؤلاء الخليجيين من جميع الدول لقضاء صيفهم في عُمان رغم كل ما يجري في الساحة من غليان طال الجميع.

إنَّ هذا الالتقاء بين أبناء الخليج في هذه الفترة الاستثنائية يحمل دلالات مُهمة لا يُمكن تجاهلها، فعُمان منذ أن قررت فتح الأبواب التي كانت تغلق مساءً في وجه أبنائها وغيرهم من الأشقاء في بداية السبعينيات قررت أن تكون الدولة التي لا تغلق بابًا في وجه أحد تحت أي ظرف وفي ظل أي أزمة، فالكلام دائمًا يمنح قوة لا يُمكن أن يمنحها أي سلاح، والمحبة تصنع في القلوب ما لا يمكن أن تصنعه الكراهية، جاء كل هؤلاء من السائحين الخليجيين لأنَّهم يعلمون المحبة التي تنبت على أرض عُمان، تلك المحبة التي تزهر على شفاه أولئك الواقفين من رجال الشرطة على الحدود أو في المطارات، أو أبناء البلد الذين يُمكن أن يصادفهم السائح في أكثر من مكان خلال رحلته، لقد رأيت مواقف مُتعددة شاهدة على ذلك كان فيها أهل البلد يقفون بحب للرد على استفسارات هؤلاء الذين ضلَّ بعضهم طريقه أو احتاج إلى من يساعده للوصول إلى وجهة  سياحية بل إنني رأيت ما هو أكثر غرابة من ذلك مع بعض الذين استهوتهم الأجواء لاستعراض سياراتهم على العشب الأخضر حيث كان ينبههم المعنيون بلطف ودون انفعال أو مخالفات للكف عن مثل هذه التصرفات، لأن الجميع يحرص في عُمان على أن تكون الكلمة الطيبة هي الوسيلة التي يواجه بها كل شيء، ولذا فإنَّ القيم والأخلاقيات واحترام السائح ينظر إليها على أنها أفضل بنية تحتية للسياحة، لأن السائح إن فقد الاحترام أو شعر بالتمييز ضده في مكان ما لا يمكن أن يقصده أو يستقر  فيه، وهذه هي البلد التي أسستها عُمان والتي تستوعب فيها الجميع بغض النظر عن ما يحملون من مواقف أو أفكار أو نزعات.

هؤلاء الخليجيون الذين ضمتهم سهول واحدة في ظفار ، وساروا جنباً إلى جنب في شوارعها، وجلسوا معًا في فنادقها وبناياتها ومقاهيها ومطاعمها بدون أن يلاحظ بينهم أي صدام أو خلاف في أي سهل أو شارع بل بالعكس كان هناك وئام وحوارات عابرة تغلفها ابتسامات لا تستحضر إلا الاشتراك في هدف لابد أن يُحافظ عليه الجميع وهو الإخوة والاستمتاع بأجواء الخريف، هؤلاء أرادوا أن يجعلوا من خريف صلالة وسيلة صامتة للحوار الذي تحاول مؤسسات إعلامية على إفساده، حوار على أرض توفر فرصاً وحرية للقاء الذي قد يصعب حدوثه في مدن أخرى، حوار في محافظة انتصرت فيها إرادة الحياة على إرادة الحرب والصراع منذ خمسة عقود، حيث يرى هؤلاء أنَّ المدن لا تصبح مدنًا إلا بالسلام والحوار والانتصار للحياة التي ينعم بها كثيرون حين تكون، وهي الحكمة التي تعلمها العمانيون وعلومها لأجيالهم التي تدرك اليوم ما معنى هذا الإرث الذي يجب أن يحرسه الجميع في كل الأماكن والأزمنة.

خريف ظفار هذا العام مختلفا في كل شيء، ففيه يبث الخليجيون جميعاً احتجاجًا اجتماعياً كبيرًا لمواجهة ما يجري بالفرح والاستمتاع بالحياة الآمنة على أرض عمان، جاؤوا يحتجون على ما يراد بمنطقتهم بحسن النوايا التي يظهرونها لبعضهم البعض والتي يضعفون بها  لكل الخلافات والكلمات الجارحة والتعليقات والتصريحات الصعبة التي صدرت خلال الأشهر الماضية، جيل يعرف أنه لم يخلق للحروب والصراعات إنما خلق للاستمتاع بالحياة الجميلة، جيل يدرك أنَّ أبناء الخليج أشبه بأسرة واحدة تجمع أفرادها نفس النزعات والاهتمامات والتحديات فلا يريدون إلا أن يعززوا مما يجمعهم ويضعفوا ما يفرقهم وموسم خريف صلالة كان مسرحاً لمنتدى اجتماعي خليجي أسري على أرض خلقت للسلام.

 

لقد عاش هؤلاء الخليجيون في موسم الخريف مع إخوتهم العمانيين لحظات مختلفة جدًا ..ولم تكن فرصة فقط لاكتشاف أسرار أرض ظفار ولا غنى تقاليدها الاجتماعية والغذائية وأنماط حياة سكانها فقط إنما كانت فرصة لاختبار معانٍ يعمل كثير على إضعافها بين أبناء الخليج وهي الأخوة والتآلف والتعارف وهي معان ذات قيمة كبرى في اللحظة الراهنة، كما كانت أيضاً فرصة للوقوف على ثبات وإتزان العمانيين ومواقفهم تجاه الجميع بغض النظر عما يجري، فلا شيء يضمن للخليج قوته كتلك الحالة من الانسجام بين أبنائه على سهول ظفار حاليًا، وهي صورة تغني عن ألف كلمة، وهي صورة تسكت كل القنوات الإعلامية التي تتربص شراً بالخليج، وهي صورة تشعر العمانيين جميعهم بالفخر لأنَّ أرضهم أصبحت ملتقى أبناء الخليج فيها يشعرون باطمئنان يتمنون أن يعم المنطقة بأكملها، وهي صورة يجب أن تشعر الجهات المشرفة على الموسم من بلدية ظفار ووزارة السياحة وغيرها من المؤسسات الحكومية والخاصة بالفخر على توفيرهم بيئة آمنة ونظيفة وممتعة لهذا اللقاء الاستثنائي لأبناء الخليج.