الاقتصاد الريفي (1)

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

 

يمثل الريف في أي بلد الداعم الخلفي للاقتصاد؛ عن طريق توفير موارد طبيعية ذات جودة عالية وصناعات خفيفة ومتوسطة سواء كانت عن طريق تربية المواشي أو من الصناعات الحرفية التقليدية وكليهما يدعمان السياحة البيئية ويجذبان الباحثين عن المنتجات الطبيعية البكر ذات القيمة العالية. ولقيام اقتصاد ريفي يتوقع منه الإسهام في رفد خزينة الدولة لا بد من نظرة صادقة تؤمن بأنّ هذا الرافد يملك مفتاحا هاما لتعزيز التنمية البشرية ونشر الرفاه الاجتماعي وترسيخ مبادئ الحكم الرشيد.

استوقفتني كلمة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد عندما زار السلطنة وكان يحاضر على هامش إحدى ورش العمل ضمن مشروع مختبرات تنفيذ الذي تتبناه الدولة بالتعاون مع الحكومة الماليزية، عندما قال إنّ الخطوة الأولى التي تبنيناها لنهضة ماليزيا الحديثة هي بناء القيم أولاً وهذا أمر لا يكاد يدركه الكثير ممن يركضون خلف هذا النمر الماليزي لاستنساخ تجربته دون إجراء أي مراجعة متأنية للقيم التي نعيشها اليوم في بلادنا، واستطرد الرجل في كلامه هذا وقال إنّ الرجوع لتأصيل القيم الحميدة للمجتمع والشعور بالانتماء الصادق لتراب الوطن يقودنا نحن كمسلمين لقراءة القرآن الكريم مرات عديدة وبتمعن وإدراك كاملين كونه يحوي كل القيم الحياتية النبيلة التي نحتاجها. 

نرى بأنّ منظومة القيم بحاجة للمراجعة وخاصةً فيما يتعلق بتطوير القطاعات الاقتصادية المساندة غير النفطيّة وفي مقدمتها الاقتصاد الريفي في السلطنة، إنّ الوضع الراهن أصبح حرجاً جداً فالإيمان بأنّ ذلك الريفي البسيط في تخوم رؤوس الجبال بمحافظة مسندم أو في قمم الجبل الأخضر ووديانه العميقة أو في بادية عمان أو روابي ظفار يمكن أن يدعم الاقتصاد الوطني أصبح شبه معدوم في دوائر القرار وباتت منظومة القيم الاقتصادية التي يدافع عنها ذلك الرجل المسن وتلك العجوز الطاعنة مادة دسمة للتقارير الإعلاميّة التي تهتم بإظهار الموروث والبكاء عليه فقط والأمر ذاته بات قبلة للمصورين المحترفين المتخصصين في تصوير الوجوه التي أكل عليها الدهر وشرب والأطفال البسطاء في أروقة الحارات القديمة، ومحطات التلفزة العالمية أصبحت تضرب موعدا مع ذلك الريف الهادئ وتضع السلطنة في قائمة اهتماماتها المستقبلية لتصوير البرامج الوثائقية على أطلال الريف وجدرانه المنهارة وإنسانه البسيط الذي أصبح مادة إعلاميّة فقط لا غير.    

يتناقل الناس في الماضي قصة لا ندري إن كانت صحيحة أم أنّها من وحي الخيال حيث يقولون إن أحد السلاطين في العهود الماضية مرّ بموكبه وإذا بقطيع من الأبقار يقطع الطريق فهمّ المرافقون بترويع المواشي وإزاحتها عن الشارع فأوقفهم السلطان وترجل من سيارته وتوجه لبقرة عجوز لا تكاد تقدر على المشي فمسح على رأسها وقال للمرافقين مخاطبا إنّ هذه البقرة لها قيمة كبيرة في منظومة الدولة ولا يجب أن تعامل إلا بما يليق بها، ربما أنّها نظرة منطقيّة لأهميّة المواشي من الناحية الاقتصادية وفي الجانب الآخر اهتمام بالغ بمنظومة القيم الأخلاقية السائدة في تلك الفترة، وربما هي نظرة سياسية ثاقبة كون البقرة قادرة على شغل اهتمام الكثيرين في تلك الحقبة الغابرة. ومن هنا وجب رعايتها من واقع احترام القيم الأخلاقية للمجتمع.

بناء على المتغيّرات الأخيرة في المنطقة باتت البقرة ذات أهمية عالية فالحليب أثبت أنّه سلعة استراتيجيّة هامة للمجتمع ولا يمكن الاستغناء عنه ومع تغيّر القناعات السياسية قد يصبح سلاحا فعالا للتحكم بتوجهات الدول مثله مثل النفط ولكن الأخير لا يدر حليباً ولا يعيش في الجبال والوهاد ويتكاثر بشكل مستدام، إذا ما اقتنع المختصون في الوزارات المعنية بأهمية القيم الأخلاقية للريفيين في السلطنة وتنمية ثروتهم الحيوانية التقليدية وتطوير حرفهم ومهنهم القديمة بشكل مستدام سنكتفي ذاتياً وربما سنصدر للخارج. أمّا وفق النظرة الحالية فسنخسر هذا الرافد الاقتصادي الهام بمرور الأيام لصالح موردين من الخارج استطاعوا أن يوظفوا قيمهم وموروثاتهم بشكل أفضل منا كما قال مهاتير محمد.

alikafetan@gmail.com