"خريف ظفار.. يسوق ذاته لذاته"

د. عبدالله باحجاج

لا يَزَال الفكرُ السياحيُّ الحكوميُّ يتبنَّى خطابًا تقليديًّا، مُتكررا، ومُستَهلكا، وسنويًّا، وهو ما يشير إليه عنوان المقال، وتستفزّنا تلك العبارة كثيرا، خاصة بعد نشر مقالنا قبل الأخير المعنون بـ"السياحة الخريفية.. في تطور أم تراجع؟"؛ وذلك عندما أصرَّ مسؤول سياحي رفيع في إحدى حلقات البرنامج الإذاعي "مُنتدى الوصال"، قبل ثلاثة أيام، على هذه المقولة، في الوقت الذي تُنبئنا فيه الإحصائيات الرسمية بصورة دورية بانخفاض ملحوظ في عدد السياح، وفي وقت تقدِّم فيه المناطق السياحية المنافسة مزايا وتسهيلات متعددة لجذب السياح.

فعلى ماذا يُرَاهِن هذا المسؤول؟ هل فقط على الضباب والرذاذ؟ ليس عنده ما يستدل على طرحه سوى ذلك فقط، وهذه الجاذبية السياحية لذاتها، قد عرفت هذا الموسم حالة عدم استقرار بصورة لافتة؛ فالرذاذ لم يكن كما اعتدناه ضيفا طوال الثلاثة أشهر، والضباب ترك مكانه للشمس في حالات غير معهودة، بعدما كانت له السيادة والريادة طوال الفصل كله، فلماذا يُرَاهِن على الذاتية وجاذبيتها؟ وحتى لو فرضت الذاتية نفسها على المكان في استثنائيته الزمنية؛ فهناك تنافسية إقليمية وعالمية، تشترك معنا في الجاذبية ذاتها، لكنها تتميَّز عنا بمقوِّماتها السياحية، والمزايا العديدة التي تجذب السياح -أشرنا إليها في مقالنا سالف الذكر- فمقولة "الخريف يسوِّق ذاته لذاته"، أصبحت معرقلة للتطور نفسه، وشماعة لبقاء الجمود السياحي، وسلبية أدائه الرسمي، وقد تتحوَّل السياحة في الخريف إلى سياحة داخلية، مثلما نشاهد صورها الكثيرة الآن في افتراش السهول وقرب مجرى العيون، والتخييم فيها، وفي كلِّ فصل خريفي تكون الأغلبية لهذا النوع من السياحة، والإحصائيات شاهدة، وهى سياحة رخيصة ومجانية وشبه مجانية، صحيح من الأهمية تشجيع السياحة الداخلية لدواعٍ وطنية واجتماعية وسيكولوجية، لكن، لابد من استيعاب هذه الظاهرة الشبابية التي تأتي من كلِّ ولايات البلاد، عبر تخصيص أمكنة منظمة للمخيمات، تتوافر فيها مرافق صحية، بدلا من ترك الظاهرة بالصورة العشوائية، على أنْ يتم ذلك، بالتزامن أو التوازي مع جذب السياحية العائلية. وهنا ينبغي التشديد على السياحة العائلية؛ وذلك لشروط التلازم والوجوب المشترك بين المكونات الاجتماعية والفكرية للدول الخليجية الست، ولو صنعنا هذا النوع من السياحة في بلادنا عامة، ومحافظة ظفار خاصة، فبدون شك سنصنع اقتصادا خريفيا بعائدات مالية كبيرة؛ مما يكون له الأثر الإيجابي في انتعاش مواردنا المالية في ظل تدني أسعار النفط، كما أشرنا إلى ذلك في مقال قديم.

فماذا تُريد العائلات الخليجية في فصل الصيف؟ هل فقط المناح المعتدل والرذاذ والضباب؟ صحيح هو مَطْلَب أساسي لها لكي تَسْلم من لهيب درجات الحراة في بلدانها والتي قد تصل إلى أكثر من 50 درجة، لكنه لن يشكل لها مطلبا أساسيا دائما، وإنما مؤقتا، فزيارة مرتين أو ثلاث متتاليتين قد يصل بها إلى التشبع، كما أنه قد تجده في دول أخرى إذا ما تميَّزت عنا بصناعة مقوماتها السياحية، ومنحت امتيازات جاذبة...إلخ.

فالمقولة "خريف ظفار يسوق ذاته لذاته" يجب تجريمها في خطاباتنا الرسمية، لأنَّ ماذا يقابلها؟ الجمود في تطوير المقومات السياحية، وفي تحويلها إلى مردود اقتصادي، كل شيء لا يُوْحِي بوجود خطة سياحية تهدف لجعل محافظة ظفار أهم الوجهات السياحية للعائلات العربية بما فيها الخليجية، رغم مقوماتها السياحية المتنوعة، ولو تأملنا إستراتيجية التنمية السياحية، فسنجد أنَّها لم تتعامل مع جغرافية البلاد كما ينبغي؛ فهى ترتكز على نظام المشاريع، وتوزيعها على المحافظات، كحصص سياحية؛ فهناك 11 مشروعا من المقرر تنفيذها في مسقط وصلالة ورأس الحد وبركاء...إلخ، ورغم ذلك نتساءل: متى سيتم تنفيذها؟ وهذا النهج لن يصنع سياحة مُستدامة وجاذبة، وذات مردود اقتصادي، بينما نرى أنَّ تعامُل كلِّ محافظة من المحافظات التي تركز عليها إستراتيجية التنمية السياحية، كمنظومة سياحية متكاملة لذاتها، بعد دراسة إمكانياتها ومقوماتها السياحية، ومن ثمَّ وضع خطة استثمارية للتنفيذ في أجال زمنية محددة.

فمثلا: لو أخذنا محافظة ظفار؛ فالنهضة السياحية في بلادنا، تحتم وضع إستراتيجية خاصة بها، ومن ثمَّ صياغة خطة تنفيذية بمشاريعها السياحية التكاملية والمتزامنة، تَشْمل مُختلف أنواع السياحة التي يمكن صناعتها في ظفار، والتي أشرنا إليها في مقالنا السابق؛ مثل: السياحة الترفيهية، والسياحة الثقافية، وسياحة المغامرات، وسياحة المؤتمرات والمعارض، والسياحة البحرية، والسياحة الصحراوية. ففي البيئات الأربع: ساحل، سهل، ريف صحراء، من المقومات السياحية التي لا ينفع معها منهجية توزيع الحصص السياحية، إنْ أردنا نهضة سياحية منافسة بأركانها الجاذبة والمثرية والمستدامة والملتزمة؛ فلنتصور صلالة مثلا بالمقومات التالية: حديقة كبيرة للحيوانات، وحدائق مائية، ومراكز ترفيهية، وتحويل الأخوار المهجورة -وما أكثرها- إلى مرافق سياحية ورياضية وسكنية على مدار العام، وتليفريك يخترق جبال ظفار، وفي محطاته مقاهٍ عالمية، بإستراحات جبلية تطل على السهل والمدينة، ومتنزهات وحدائق بمقاهٍ حول مناطق الشلالات بعد حجز مياهها لاستغلالها عِوَضا عن أن تذهب للبحر... القائمة طويلة.

 فلو وقفنا عند نموذج الأخوار، ولنأخذ خور الدهاريز مثلا -والذي يبلغ طوله كيلومترا، ومتصل بوادي صحلنوت- فهناك مقترحات مجتمعية لتطويره منشورة عبر بعض المواقع الإلكترونية، مثل فتحه على البحر وتعميقه وتوسيعه، وعمل أرصفة للمشاة والمركبات وجلسات وإستراحات على جانبيه، وبناء الجسور على الضفتين، وتحويل الأراضي المحيطة إلى فنادق وحريقة مائية على بحر العرب، ويمكن أن يسري الشيء نفسه على بعض الأخوار الأخرى مع مُرَاعاة البُعد والأهمية بدلا من تركها دون مردود اقتصادي.

شريطة فتح المشاريع السياحية في الصحراء والنجد والسهل والساحل للاستثمار الخارجي؛ فليس لدينا ثقة في الاستثمار الداخلي الذي أصبح من بين أهم العراقيل السياحية لعزوفه عن الاستثمار الداخلي، واستحواذه على الأراضي السياحية دون استثمارها؛ فهناك فعلا أراضٍ سلمت له منذ سنوات عديدة، وفي مواقع إستراتيجية، ولا تزال بيضاء، ويجب إعادتها منه سريعا، ولعلَّ تجربة أحد المولات في صلالة نموذجا نستدل به؛ فقد لاقى مُعَارضة داخلية بحجة: كيف نسلم هذه الأرض لوافد؟ ولما سُلِّمت له، فقد تحوَّلت الأرض إلى مركز تجاري كبير وفندقي أربعة نجوم، ومطاعم ومقاهٍ عالمية، مما تحوَّل إلى عُنصر جذب سياحي على مدار العام؛ فالاستحقاق الاقتصادي مهما كانت ماهيته يجب أنْ يُفْرَض بمنطق المصلحة الوطنية ووفق قاعدة "لا ضرر ولا ضِرار".

وعندما نَصْنَع هكذا سياحة بتلك المقومات، سنسلم بأنَّ خريف ظفار يسوق ذاته لذاته، ما عدا ذلك؛ فالمقولة مرفوضة، ومن أجل ذلك فقد أصبحت عملية حصر الشأن السياحي في مُؤسَّسة واحدة من الضروريات، بدلا من تشتتها بين عدة مؤسسات تتضارب فيما بينها في الصلاحيات وحتى في التوقعات والآمال، واختيار من داخل صندوقها أو من خارجه الكفاءات المتخصصة والمهنية والفاعلة -مقترح سابق- فالقرار هنا سياسي بامتياز.