أنتَ أضعف مما تتصوَّر!

عيسى الرَّواحي

يصُول اﻹنسان ويجول في خضم هذه الحياة، ويكافح في معتركها كفاحا مريرا، متنعما أو مغترا بما آتاه الله من قوة وصحة وعافية أو جاه ومال؛ لذا فكثير من بني البشر يزهون بتلك النعم وينسون مُنعِمها؛ فتارة يبطشون بطش الجبارين، وتارة يعيثون عيث المفسدين، فبينَ كِبْرٍ وتعالٍ، وبين زهوٍ وغرورٍ، وبينَ ظلمٍ وبطشٍ، وبينَ عداءٍ وانتقامٍ، ويظنون أنَّهم في هذه الحياة على هذه الحال من النعماء مُخلدون.

ونسي اﻹنسان أنَّه مهما أوْتِي من قوَّة وصحة ومال فإنَّه ضعيف، بل إنَّه أضعف مما يتصور؛ فحشرة لا تكاد تُرَى بالعين المجردة تؤذيه، وقد تلزمه فراشه عليلاً؛ فتجعله لا حول له ولا قوة.

كل ما يتنعَّم به اﻹنسان من صحة وقوة، وما قد يجعله منحرفا عن المسار الصحيح، فإنَّ مصيره إلى زوال؛ فالقوة مآلها الضعف، والصحة مآلها السقم، والعقل إن طال العمر مآله خَرَفٌ لا يعلم صاحبه من بعد علم شيئا: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ" (النحل:70).

وقد تزول تلك النعم فجأة دون سابق إنذار، وفي غمرة الزهو والعلو؛ فيصبح حينها مغلوبا على أمره، عاجزا عن فعل شيء، لا يحرك ساكنا، ولا يوقف متحركا.

تجد اﻹنسان في أعلى درجات صحته ذا بأس شديد؛ فإذا بسنٍ من أسنانه تتأثر أعصابه فيشتد عليه اﻵلام، وتضيق عليه اﻷرض بما رحُبت من شِدَّة ذاك اﻷلم الذي يُعانيه من هذه السن، وما أشد آلام اﻷسنان! فيصبح حينها ضعيفا وأضعف مما يتصوَّر، فقد يَبْكِي بكاء اﻷطفال، وقد يجن جنون المعاتيه، وقس على ذلك هذه اﻷمراض العارضة التي قد تطرأ على كل إنسان كثيرا من حُمَّى وزكام وصداع...وغيرها، فما أضعف اﻹنسان! وما أشد ضعفه!

ولربما تراه في أوج صحته وبأس قوته ذا بسطة في الجسم والعافية، فإذا بقطرة دم تتخثر في مجرى عروقه فيصاب بجلطة دماغية تصيبه بشلل في أهم أعضائه؛ فيصبح عاجزا عن الحركة بعد أن كان ذا بطش وبأس، وقد يصبح عاجزا عن نطق كلمة بعد أن كان كثير الكلام وربما شديد اللغو والثرثرة، وربما أصبح لا يميز بين صواب وخطأ وأسود وأبيض، فما أضعف اﻹنسان! وما أشد ضعفه!

وأمراض العصر الفتاكة التي تفتك بالبشر فتكا أكثر من أن تحصى، ومن زار المشافي رأى ذلك رأي العين، ومن سمع أحوال الناس أيقن ذلك دون شك، فكم من شاب يهز صوت صراخه الحيطان هزا، وصدى صوته يتردد في كل ناحية، وإذا مشى تظن أو يظن في نفسه أنه يخرق اﻷرض من بأسه أو يبلغ الجبال طولا؛ وما بين عشية وضحاها يصبح أسير سرير المستشفى تحيط به اﻷجهزة الطبية من شتى النواحي، لا يكاد يسمع صوته، ولا يكاد يحرك شيئا من أعضائه، يأمل الحياة الهانئة فلا يجدها، ويطلب الموت فلا يجده وهو يأتيه من كل مكان من شدة ما يعانيه من آلام، فما أضعف اﻹنسان! وما أشد ضعفه!

تَرَى الشابَّ يُبَاهي أترابه بماله وجماله، ويأخذه العجب والغرور أن يطيش بمركبته مستعرضا مهاراته وهواياته أمام خلق الله، فيؤذيهم أشد اﻹيذاء، ظانا نفسه أنَّه فريد عصره ووحيد مصره، وفي غمضة عين إذ بحادث مفاجئ تعجز قواه كلها ومهاراته جميعها أن تفعل شيئا، أو تواجه ذلك العارض الطارئ؛ فينقلب السحر على الساحر، فإما أن يكون قد بلغ أجله، وإما أن يصبح في حال يُرْثَى لها من الضعف وشدة اﻷوجاع واﻵلام، فلا رجل يمشي بها ولا يد يبطش بها، فيصبح عاجزا أن يقضي بنفسه أهم ضروريات جسده، فهو كالطفل الوليد حيلته على غيره، فما أضعف اﻹنسان! وما أشد ضعفه!

واﻹنسان في حقيقة اﻷمر ضعيف أشد الضعف حتى في حال صحته وقوته؛ فبرد شديد يؤذيه، وحرارة لافحة تؤذيه، وتراه يخشى حشرة تتطاير أمامه أن تلسعه فيدفع نفسه عنها، وربما تطن بعوضة قرب أذنيه فينزعج منها، ويغضب أشد الغضب، فما أضعفه! وما أشد ضعفه!

... إنَّ حقيقة ضعف اﻹنسان يجب أن تجعله خاضعا متذللا لله سبحانه وتعالى الذي خلقه من العدم، وأسبغ عليه جميع النعم، مطيعا لربه في جميع اﻷحوال، فأجله وصحته وقوته وجميع النعم كلها بيد الله تعالى وحده، فلا يتعالى ولا يتكبر على أحد من خلقه، وفي ذات الوقت لا يركن لبشر مثله، ولا يتذلل لمخلوق مهما بلغ شأنه، فالخضوع والتذلل لله وحده فقط ذي القوة المتين والقهر والجبروت القائل في كتابه العزيز: "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" (النساء: 28).