زاهر المحروقي
قد تمرّ على الإنسان آياتٌ قرآنيةٌ يخال أنّه يسمعها لأول مرة، رغم أنّه يكون قد قرأها أو سمعها قبل ذلك كثيراً؛ ويعود سبب ذلك إلى ارتباط تلك الآية بحدثٍ معين سواء كان شخصيًّا أو عامًّا. وهذا ما حدث معي في إحدى الصلوات بمسجد حرقوص بن زهير في الحيل الجنوبية في مسقط، عندما استوقفتني آيتان من سورة البقرة قرأهما الإمام وهي: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ واللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)). وقد رأيتُ - وأنا أفكر في الآيتين - أنّ هناك في حياتنا كثيراً من هذه النماذج التي ذكرَتْها الآيتان، وهي تنطبق على الأفراد كما تنطبق أيضاً على الدول؛ فمن يقوم على أمر الحكومات هم بشر؛ لذا فإنّ كلَّ ما يعتري النفس البشريّة من الأمزجة والتقلبات والأحوال ينعكس على الحكومات التي تدار بمزاجية، بعيداً عن الديمقراطية الحقيقية. من هنا رأينا في العالم مثلاً كيف استطاع شخصٌ واحدٌ في أكثر من بلد وتحت تأثير مزاجيته أن يقود الأوطان إلى الكوارث، ويتسبَّب في إهلاك الحرث والنسل، وهي في الواقع مصيبة أن يُترك أمر الشعوب بيد أشخاص لا يحكمهم دستور، فيعبثون بأرواح ومقدرات الشعوب، ويعيثون في الأرض فساداً، بعد أن ملكوا الأرض بمن فيها وما فيها وما عليها.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى يصف فئة من الناس بأنّ هناك "من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، حيث إذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل، فإنّ تلك الفئة لا تقتصر على الناس العاديين فقط، بل هي أكثر تعبيراً عمن يقود الحكومات ويستغل الدين في تحقيق مآربه الدنيوية، لأنّ تأثير الإنسان العادي الذي لا يملك المال ولا السلاح ولا النفوذ ولا القوة ولا الإعلام يبقى محدوداً، عكس الذي يملك الدولة والسلاح والمال والإعلام، ويطوِّع كلَّ تلك الأمور لتحقيق مآربه. ومن جميل ما قرأتُ في هذا المعني، أنّ سيدنا موسى عليه السلام، قتل رجلا واحدًا بالخطأ، فيما قتل فرعون الآلاف من الرجال والنساء والأطفال عمدًا، إلا أنّه قام بتجييش حملة إعلامية شرسة، صورت سيدنا موسى بأنّه القاتل الكافر المجرم (وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ التِّيْ فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرِيْن).
يقول سيد قطب في "ظلال القرآن" واصفاً هذه الفئة من الناس: "هذا المخلوق الذي يتحدّث فيصوِّر لك نفسه خلاصةً من الخير والإخلاص والتجرد، ومن الحب ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس؛ هذا الذي يعجبك حديثه، إذا جاء دور العمل، ظهر المخبوء وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كلِّ حي من الحرث ومن النسل. وإهلاكُ الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد، ممّا كان يستره بذلاقة اللسان ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس; ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر".
يقف سيد قطب عند نقطة هامة، وهي أنّ هذا الصنف من الناس - حكاماً كانوا أم محكومين - يخدعون كثيرا من الناس، سواء بطلاوة لسانهم أو ادعائهم الصلاح أو بمنح أنفسهم ألقاباً دينية ما أنزل الله بها من سلطان، تشي بأنهم خدم للذات الإلهية، بما يملكونه من مال ونفوذ وإعلام، وبما يملكون من الشيوخ والكتاب ممّن يقلِّب الحقّ باطلاً والباطل حقاً، حتى عمّ عند الناس مصطلح "شيوخ الفتنة".. إلا أنّ هذه الخدعة لا تنطلي على الله سبحانه وتعالى؛ فهو العليم بكلِّ شيء.
ورغم أنّ الحقائق أصبحت الآن واضحة للعيان، إلا أنّ هناك من الناس من فضّل ألا يلغي الغشاوة عن عينيه، فظلَّ يؤمن بالشعارات الرنانة الخادعة التي اتخذت من الله سبحانه وتعالى جسراً لكي تحقق مآربها وتخدم بها أسيادها، وتشتت الأمة بأن أصبحت أداة للإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل ونشر الخراب والدمار في كلِّ مكان، وأخرجت ما يعتمل في صدرها من الحقد والضغينة والشر والفساد؛ وإذا ظهر من يفعل هذا كله ثم قيل له "اتق الله"، تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه، أنكر أن يقال له هذا القول واستكبر أن يوَّجه إلى التقوى، وأخذته العزة بالإثم، فاستعزَّ بالإجرام والذنب والخطيئة - كما يقول سيد قطب - ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذكَّر به.
الحقيقة تقول إنّ الإسلام بريء من صفة الإرهاب التي ألصقت به زوراً، ولكن لا يمكن أن ننكر أنّ بعض المسلمين هم السبب في إلصاق تلك التهمة بالدين الإسلامي بما فعلوه من الإجرام في حقِّ البشرية في كلِّ مكان في الأرض، ولا يمكن أن ننكر هذا أبدًا، وإلا فإننا نخدع أنفسنا؛ ولكن قد أضيفت الآن إلى تهمة الإرهاب تهمةٌ أخرى هي تهمة "إرهاب دولة" أو "الإرهاب المنظم"، وإلا فما معنى أن يتم الاعتداء على دولة بالكاد يستطيع شعبها الآمن أن يحصل على قوت يومه، ويتم تدمير كلِّ شيء ليصل الأمر إلى إهلاك الحرث والنسل؟! وما معنى أن يتم حصار شعب شقيق في شهر عظيم مثل شهر رمضان المبارك؟! وكلُّ هذا والمسجدُ الأقصى يعاني ويصرخ، والفلسطينيون قد تركوا وحدهم ليواجهوا مصيرهم.
إنّ ما يحصل في الجزيرة العربية - مهبط الوحي - هو أبعد ما يمكن عن دعوة الإسلام، من أهمية نشر السلام والأمن والأمان والحب والوئام، وقد أعطى انطباعًا سيئًا عن الدين الإسلامي وأهله، وهو الدين الذي يؤكد على حماية المدنيين الآمنين وعدم ترويعهم أو إيذائهم؛ فإذا كانت الدعوات قد انطلقت بأهمية اجتثاث الإرهاب واستئصاله من العالم، فإنّ الأوْلَى أن يتم إيقاف "الإرهاب المقنن" الذي يتخذ شرعيته من التحدث باسم الله، فيؤدي إلى قتل الأبرياء والتسبب في انتشار الأمراض بين الشعوب، بحجة أن هذا يدخل ضمن محاربة الإرهاب. ولكن إذا وُجد من ينخدع بالشعارات الرنانة وكثرة الحديث عن الله سبحانه وتعالى استغلالاً، فإنّ ذلك لا يخفى على الله سبحانه وتعالى؛ فمن يرتكب جُرماً ضد إنسان بريء، هو منحرف التفكير ومريض النفس، حسب رأي الأخصائيين الاجتماعيين، فما بالك بمن يرتكب هذا الإجرام بشعوب بأكملها؟!