نحن والغرب وحقيقة المؤامرة


علي المعشني
 

من أغرب التعاملات والعلاقات بين الشعوب في العصر الحديث هي علاقتنا نحن العرب وتعاملنا مع الغرب بعمومه والجناح الاستعماري منه على وجه الدقة والتحديد. فهي علاقة مليئة بالتناقضات والأضداد ويشوبها الكثير من الجهل والغموض والضبابية وغياب الفهم العميق والجذري لها، فتارة الغرب استعماري بغيض وعدو مبين، وتارة الغرب شر لابد منه، وتارة الغرب عدو لا غنى لنا عنه، وتارة الغرب شياطين وملائكة.. وهكذا بقينا نتأرجح في تصنيفنا وتوصيفنا للغرب وحدود وماهية التعامل معه وعلاقتنا به دون التوصل إلى توصيف جامع مانع لها ومتفق عليه.
والغرب في المقابل بارع جدًا في تسويق نفسه لنا بأنّه ليس طيفا واحد بل أطياف متعددة ومختلفة رغم معايشتنا ويقيننا بأنّ السياسات الغربية تجاهنا في العهدين الاستعماري الاحتلالي المباشر والاستعمار الجديد والمتمثل في الإعاقة الحضارية وتكريس التبعية والهيمنة لم تتغير في الهدف وإن تغيرت الآليات وصيغة الخطاب بحكم لزوميات الزمان والمكان.
فالغرب الاستعماري احتل الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه بهدف تفتيته وإخضاعه والهيمنة عليه وتكريس الثقافة القطرية فيه وتنفيذ حكم الشتات والتمزيق عليه، واليوم يمارس نفس الدور ولتحقيق ذات الهدف بقتل النموذج القٌطري العربي والذي يمكن أن يشب ويخرج عن الطوق ويشكل أنموذجًا عربيًا يحاكى ويقتدى به من قبل أشقائه، لهذا رأينا بالعين المجردة كيف دُمر النموذج الوحدوي الناصري والنموذج التنموي الجزائري في عهد الرئيس هواري أبو مدين ونموذج التحدي والمواجهة للغرب من قبل ليبيا القذافي ونموذج العراق القوي في عهد البعث والرئيس صدام حسين، واليوم الدور على آخر النماذج العربية وهو النموذج المقاوم للتطبيع مع كيان العدو والمتمثل في سوريا. وتحت كل نموذج وعنوان تفاصيل لا تحصى من المؤامرات والدسائس والخذلان، وتوظيف القوى الناعمة والعنيفة لتحقيق الهدف وتدمير النموذج، بل ولم يسلم حتى النموذج السلمي التعايشي بلبنان من التدمير والتآمر الغربي على اعتبار أنّ لبنان كان رئة العرب وبؤرة ثقافتهم ومتنفس حريّتهم وملاذا لمضطهدي الكلمة والفكر وقدوة في تعايش وتآخي المكونات، وبتدميره أصبح الغرب هو الملاذ والبديل للنشطاء والمفكرين والعقول النادرة العربية.
أتعجب كثيرًا حين أسمع البعض من النُّخب اليوم يردد تحليلا أو مخططا غربيا لتمزيق الوطن العربي وتقسيمه أو تعريض أقطار عربية فاعلة بعينها للتدمير، وكما رأينا في فصول الربيع الصهيوني من استهداف منظم وجلي لما تبقى من مكونات ما كان يُعرف بجبهة الصمود والتصدي، والتي تشكلت بعيد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس عام 1977م ثمّ توقيع مصر على اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 مع كيان العدو، وكأنّ مخطط التمزيق وفصول المؤامرة توقفت لساعة واحدة في الأساس. فهذه الجبهة والتي تشكلت حينها من كل من العراق وسورية وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية يمكن القول إنها أحدثت أثرًا فاعلًا في تسجيل موقف رسمي وشعبي عربيين من التطبيع المجاني مع كيان مغتصب والإذعان لمخططات الغرب بالقبول بالأمر الواقع والتسليم بحق كيان العدو بأرض فلسطين العربية.
ما يُروّج اليوم لمخطط برنارد لويس ووصفه بمنظر العنصرية الغربية – لإكسابه الهيبة التنظيرية والعظمة التأثيرية – أو هنري كيسنجر لتقسيم الأقطار العربية وتفتيتها إلى كيانات مجهرية على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية ليس بجديد على الإطلاق، بل الجديد هو العقليات العربية المعاصرة والتي تتعامل مع هذه الهرطقات الغربية والإسهالات الكلامية على أنّها قضاء وقدر لا يرد ومسلمات حتمية آتية لامحالة لأنهم لا يقرأون التاريخ ليبصروا المستقبل.
الغرب يحلم كثيرًا ويخطط كثيرًا بلا شك لإعاقة الأمة العربية عن النهوض وتدمير النماذج القٌطرية، ولكنه في المقابل لم ينجح في تحقيق مخطط كامل واحد على أرض الواقع منذ ما عُرفت باتفاقية سايكس/ بيكو عام 1917م لتقاسم النفوذ في الوطن العربي بين بريطانيا وفرنسا، فذلك الزمن كان في مرحلة تشظي الدولة العثمانية وغياب الدولة الوطنية ولا يمكن الاعتداد به وبأثره، تلى ذلك عصر الاحتلالات العسكرية المباشرة أو امتداداتها والتي تخللتها ثورات عربية تكللت بقيام دولة الاستقلال العربي حيث غير الاستعمار جلدته وأستخدم استراتيجية التبعية والهيمنة والإعاقة الحضارية وتحطيم الدولة النموذج كاستعمار جديد وبديل.
هذه المؤامرة وفصولها التاريخية تدل على أنّ الأمّة العربية تمثل هاجسا حضاريا مُهما لبقاء وسيادة المدنية الغربية للعالم وبسط الهيمنة والنفوذ على الوطن العربي يعني إبطال مفعول الأدوات الحضارية للنهوض العربي وتعطيلها والمتمثلة في الثروات البشرية والطبيعية والجغرافيا الواحدة والموقع الاستراتيجي النادر، والأهم من كل ذلك هو مقوّمات الوحدة العربية والموروث القيمي الهائل للأمّة والزاد الحضاري المشع، فجميعها تمثل قوى ناعمة تهدد الوجود الغربي وسيادته في حال تفعيلها، وهو ما أشار إليه برنارد لويس وحذر منه أبناء جلدته. وفي المقابل قلل لويس من خطورة كيانات أخرى كاليابان وكوريا الجنوبية على المدنية الغربية وسطوتها فهي كيانات تواكب الغرب وتخاطب نموذجه ولا تمتلك مقوّمات وأدوات حضارية أو ثوابت تهدد ثقافة الغرب أو ثارات تاريخية مع الغرب كحال الأمّة العربية، والتي شكلت عبر التاريخ سجالات وامتدادات وآثارا في مشارق الأرض ومغاربها ولاتزال جذوتها تتقد وتتأهب للريادة وقيادة العالم مجددًا.
لهذا فالغرب يستحيل أن يسمح بأي إصلاح في أي قُطر عربي لا يكون له دور فيه لضمان تغييب وإفساد أي إصلاح وطني قد يشكل نواة لمشروع قُطري ربما يمتد بالتداعي لأقطار أخرى ويسحب البساط عن حالة الانبهار والتبعية للغرب وثقافته.
قبل اللقاء: "متى يفهم العرب أنّ ضعفهم خيارًا وليس قدرًا".
وبالشكر تدوم النعم..

Ali95312606@gmail.com