علي المعشني
في العام 1990م، هلَّل الغرب الرأسمالي لما أَسْمَاه سقوط جدار برلين الفاصل بين الألمانيتين الشرقية والغربية، هذا الجدار الفاصل بين الدولتين منذ أن وضعت الحرب الأوروبية الثانية (العالمية) أوزارها، فقسمت ألمانيا بين شرقية تتبع المعسكر الاشتراكي وغربية تتبع المعسكر الرأسمالي، وسبب تهليل الغرب لإسقاط جدار برلين والاحتفاء المبالغ به هو دلالته ورمزيته في مفاهيمهم وثقافتهم الغربية لانتصار الرأسمالية على الاشتراكية السوفييتية وانتزاعهم قطرًا من أقطار المعسكر الشرقي. وفي الوقت ذاته، رِهَان الاقتصادات الأوروبية وأمريكا على إنهاك الاقتصاد الألماني وتراجعه وتعطيله أمام اقتصاداتهم بفعل انهماكه -وكما تصوروا- في إعمار وترقية الجزء الشرقي من ألمانيا ماديًّا ومعنويًّا وثقافيًّا ليلحق بركب الاقتصاد الغربي وثقافته الاستهلاكية بلاحدود أو ضوابط وكما عُرف عه.
تَفَاجأ المراهنون على إضعاف الاقتصاد الألماني وإعاقته بوجود موازنة (تقديرية) سرية للغاية بوزارة المالية الألمانية بلغت 60 مليار مارك ألماني تحت بند إعادة إعمار الجزء الشرقي من البلاد في حال عودته وانضمامه للوطن مجددًا، وقد وضعت هذه الموازنة منذ عقود وتوالت على تعزيزها ومراجعاتها حكومات ألمانية عديدة وبسرية تامة، لهذا لم يفقد الاقتصاد الألماني درجة واحدة من درجات قوته وترتيبه ومنافسته، بل توفرت له عناصر بشرية وموارد مالية وقدرات شرائية جديدة جعلته يحلق عاليًا في سماء الاقتصادات العالمية بثبات وقوة وابتكار وتجدد حيث لم ينفق الألمان أكثر من نصف موازنتهم السرية المقدرة للإعمار، وضخ النصف المتبقي في شرايين الاقتصاد الألماني.
بعد انقضاء ما يقارب العقد من الزمان على تطبيل سقوط جدار برلين بدأت حسابات الحقل والبيدر بين الألمان أنفسهم الشرقيين والغربيين؛ حيث عانى الشرقيين من الجشع وفرط الإستهلاك والنظرة المتعالية من أشقائهم الغربيين وعانى الغربيين من ازدراء واحتقار الشرقيين لهم لطغيان المادة على كل شيء في حياتهم وطوابير العطالة وفواتير العلاج والتعليم وأقساط السكن والمقتنيات تلك الخدمات التي كان يحصل عليها المواطن الألماني الشرقي في ظل الاشتراكية بالمجان والوظيفة دون انتظار والسلع الضرورية مدعومة من قبل الدولة والكمالية تصنع في الدولة أو تستورد وتقنن في تسعيرتها واقتنائها للمواطنين.
ولم يقتصر الأمرُ على ذلك، بل افتقد المواطن الشرقي لنظام التشاركيات والتعاونيات التي دأب عليها المواطنون في العهد الاشتراكي؛ حيث كانت الأحياء في المدن الكبرى تتعاون فيما بينها لزراعة المحاصيل الموسمية -في مساحات تخصصها الحكومة بين التجمعات السكانية- وبأيدي أبنائها ويتقاسمون حصادها بنهاية كل موسم، وبهذا اعتادوا على ثقافة الإنتاج والتعاون والاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي والسيطرة على الأسعار. بينما عانوا في ظل الوحدة من الغلاء الفاحش والمضاربات والضرائب الباهضة وشراء جميع الخدمات الضرورية، والتي كانوا يحصلون عليها بالمجان في العهد الاشتراكي، حين كان لكل شيء يكتسبونه قيمة حقيقية مقارنة بثقافة الاستهلاك المفرط والإغراق في كل شيء وإقتناء ما تحتاجه وما لا تحتاجه كذلك.
هنا بدأ الصراع الصَّامت بين ثقافتين وعهدين ومفهومين وبدأ المواطن الألماني الشرقي يراوده الحنين إلى أيام الاشتراكية ويضع عليها من لمساته ومقترحاته لتحسينها لتواكب العصر، وتناسب تطلعات المواطن وطور الدولة كالحريات المنضبطة ووسائل إعلام مسؤولة وبسقف معقول من الحرية، ولكنها بقيت مجرد أضغاث أحلام ابتلعتها الرأسمالية وطوتها في دفاتر الأيام وإلى غير رجعة لتجبر الألماني الشرقي على الفحش والترف في كل شيء حتى ينغمس إلى أذنيه في ثقافة الرأسمالية، ويعيش تفاصيل ويوميات الثقافة الإستهلاكية بكل تفاصيلها لتدور عجلات المصانع والاقتصادات وتمتلئ جيوب المستثمرين وهو الشعار والهدف الأهم والأسمى للرأسمالية، وخاصة في مرحلتها الإمبريالية المتوحشة والتي تبرر كل شيء في سبيل تحقيق مصالحها.
وللحقيقة والإنصاف لم يكُن هذا الشعور حكرًا على الألمان الشرقيين وحدهم، بل انسحب على جميع شعوب المعسكر الشرقي -بالنسبة والتناسب- ممن جرفتهم الرأسمالية وأغوتهم بحججها الألحن من الاشتراكية ثم أوصلتهم إلى مرحلة الانسداد واللاعودة وأعادتهم إلى عصور الطبقيات والإقطاع بصور مجددة وعصرية.
هذا المثال في تقديري دليل على أنَّ الشعوب لا يمكن أن تتكيف وتبدع إلا في ظل التجارب النابعة من رغباتها وحاجاتها فقط لاغير، تلك التجارب التي تفرزها اللحظة ويحتمها الظرف الزماني لطور الدولة والشعب وحجم الوعي والحاجة.
فالديمقراطية والحرية حاجات إنسانية وضرورات طبيعية كالماء والهواء لم يبتكرها أحد من البشر وكل ما تحتاجه هو تحديد الآليات والجرعات المناسبة في كل طور ومرحلة من أطوار الدولة وأعمارها لتترسخ وتثمر وكيلا تصبح تقليدًا أعمى أو فوضى غير منضبطة تأتي على المكتسبات وتعبث بالثوابت والمسلمات وتصبح أدوات طيعة بأيدي الخصوم والإنتهازيين للنيل من هيبة الدولة ومكوناتها وموروثها الحميد وتهديد أمنها القومي وسلمها المجتمعي تحت تسويق شعارات براقة سرابية يحسبها الظمآن ماء.
ونحن في سلطنتنا الحبيبة -وفق قناعتي واعتقادي- في هذا الطور من عمر الدولة ووفق مقدار منسوب الوعي لدى المواطن نحتاج إلى مجالس بلدية منتخبة فاعلة وواسعة الصلاحيات التنفيذية المباشرة مع تخصيص موازنات مالية سنوية مجزية للتنمية المحلية تقدر بالنسبة والتناسب بين كل محافظة وأخرى وفق معايير المساحة وعدد السكان والتضاريس الجغرافية. وبهذا نخفف الضغط والأعباء والمسؤوليات والعتب عن كاهل الحكومة إلى حد كبير ويشعر المواطن بمشاركته وقيمته، ويرى بنات أفكاره وحاجات مجتمعه المحلي تتحقق أمامه، ونغرس ثقافة التنافس الحر الشريف بين المحافظات وتتفتق عقول أبناءها وتتزاحم في الإبداع وتقدير الأولويات؛ فمشروعات التنمية المحلية -وكما معروف- تقدر وفق سقف إنفاق وحجم معروفين وتختلف عن المشروعات الوطنية العملاقة والتي تناط عادة بالحكومة والتخطيط المركزي الإستراتيجي للدولة.
أمَّا نظرتي لتجربة الشورى في السلطنة، فإنني أرى من الضرورة ترشيدها وتهذيبها اليوم قبل أن تتغول أكثر وتصبح عبئا على الدولة وتنميتها وهيبتها وسلمها الوطني والمجتمعي، وهو ما لمسناه وعايشناه جليًّا في سنوات وأطوار عمر مجلس الشورى من تنابز وصدام ومماحكات بين الحكومة والمجلس نتيجة غياب الوعي السياسي العميق وثقافة المشاركة من كلا الطرفين، وهذا توصيف وتشخيص وليس ذمًّا ولا انتقاصًا من طرف، وبالنتيجة سنصل إلى حال أسوأ بكثير مما نتوقع فيما لو ترددنا وتمسكنا بالقشريات والعناوين على حساب الحكمة والنتائج على الأرض. فنحن بالنتيجة الحتمية سنصل بتجربة الشورى -في حال الرهان على الزمن كعادتنا- إلى مؤسسة تخترقها اللوبيات وتقرر عضوياتها ومخرجات قراراتها بما يتواءم مع مصالحها كحال برلمانات الغرب، أو مؤسسة صورية استعراضية تنغِّص على الحكومة والمجتمع وتكشف عن أسرار الدولة بما يربك المجتمع ويهدد وحدته وأمنه واستقراره ومسار التنمية فيه، وأقل الأضرار المحسوبة هو تأليب الرأي العام على خطط الحكومة وتهويل عثراتها وبسط الخطاب العاطفي الخالي من أي علمية أو عقل.
والحل في تقديري أن نُقدم على خطوة تاريخية شجاعة من نسيج حاجتنا وتجاربنا، وأن نشكل مجلسا واحدا باسم مجلس عُمان يتكون من نصف أعضاء منتخبين مباشرة وفق محاصصة علمية وخبراتية (قانونيون، أكاديميون، مثقفون، اقتصاديون، أمن وعسكرية، تربويون...إلخ ) ومثلهم معيَّنون من قبل الدولة، ويضاف إليهم أصحاب السعادة الوكلاء أو من ينوب عنهم ممثلًا لوزارته من خبراء أو مستشارين بترشيح منها لندمج ما بين تجارب الشورى والدولة والاستشاري؛ وبالتالي نوفر مناخات عملية وبُعدا وعمقًا للقرارات والرؤية والرقي في المسؤوليات والطرح.
كما أنَّ فضيلة المراجعة اليوم ستعفينا من التراجع غدًا، خاصة وأنَّ التجربة وكما وصفها وأطلقها المقام السامي -حفظه الله- ستشهد التطور، وهذا التطور بلاشك لن يحدث بدون تقييم ومراجعة، والأهم من كل ذلك هو أن ننتج تجربة تشبهنا بما يسهل علينا تطويعها ومراجعتها وتقويمها دون تدخل خارجي أو مِنَّة من أحد.
وبالشكر تدوم النعم..،
---------------------------------
قبل اللقاء: الديمقراطية عبارة عن منظومة سياسية اجتماعية تربوية، تُحاكي تمامًا منظومة الأسرة وثقافتها في كلِّ مجتمع؛ فالمجتمعات والشعوب عبارة عن أسر كبيرة لا يُمكن أن تُدار بالتناقض والفصام والتضاد ما بين ثقافة الأسرة وثقافة الدولة.
Ali95312606@gmail.com