عبيدلي العبيدلي
تناقلتْ وَسَائل الإعلام -التقليدية منها والإلكترونية- بشكل مُكثَّف، وتمَّ بثُّها على نَحْو واسع، لمحات مما جرى بين الرئيسيْن الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين بشأن الاتفاق على "إنشاء وحدة للأمن الإلكتروني". مادة الخبر، رغم أهميته الفائقة، كانت غاية في الاختصار.
وقبل تناول مدلولات ما جرى بين الرئيسين الأمريكي والروسي -سواء عند مناقشته أو بعد التراجع عنه- ينبغي التوقف عند مفهوم الأمن الإلكتروني، وهو تعبير أصبح متداولا في الكثير من الأدبيات الإستراتيجية التي تتناول موضوعات الفضاء الرقمي.
إذ يعتبر البعض أن الأمن الإلكتروني بات اليوم من "أهم المواضيع التي تشكل أساسا لإستراتيجيات الدول والمنظمات الدولية العالمية والإقليمية، الحكومية وغير الحكومية، لمواجهة مختلف المشاكل التي تهدد استقرار الفضاء الرقمي، والذي سينعكس سلبا على السلم والأمن الدولي، وعلى هذا الأساس يرتكز الأمن الإلكتروني على مفاهيم ذات نطاق وطني وإقليمي وعالمي، ومفاهيم أخرى ذات أبعاد أمنية، وتكنولوجية، واقتصادية وسياسية، واجتماعية، وعسكرية...الخ، (مضيفا) وتتعاظم أهمية هذا الموضوع في ظل الحكومات الإلكترونية الذي باتت فيها مسألة الأمن الإلكتروني من أهم التحديات التي تواجهها".
وليس أدل على تعاظم مسألة الأمن الإلكتروني من تزايد اهتمام المنظَّمات الدولية بهذا الأمر، بما فيها الأمم المتحدة التي جاء في معالجة مطولة على موقعها الرسمي أنه "مع تزايد انتشار تقنيات المعلومات والاتصالات ونمو فرص تبادل المعلومات في عالم لا تحده حدود، أصبح أمن الفضاء الإلكتروني مسألة معقدة تتعدى حدود الدول وتتطلب تعاونا عالميا لضمان أمن الإنترنت. وبحسب دراسة نورتون، التي أُعِدَّت عام 2011، فإن تهديدات الفضاء الإلكتروني تزايدت بشكل كبير في العام الماضي؛ حيث بلغ عدد الضحايا 431 مليون شخص بالغ من مختلف بقاع العالم، أي ما يعادل 14 ضحية كل ثانية أو مليون ضحية من ضحايا الجرائم الإلكترونية يوميا. وأصبحت الجرائم الإلكترونية حاليا تجارة تتجاوز قيمتها ترليون دولار سنويا... مما يؤثر على ملايين البشر في مختلف أنحاء العالم فضلا عن عدد لا يحصى من الشركات والحكومات من مختلف بِقاع العالم".
وكما جاء في المادة المنشورة على الموقع، فإنه "ولمعالجة القضايا والتحديات المحيطة بأمن الفضاء الإلكتروني والجريمة الإلكترونية، عقد المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة مناسبة خاصة حول أمن الفضاء الإلكتروني والتنمية، تم تنظيمها بالاشتراك مع إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والاتحاد الدولي للاتصالات".
هذه الإطلالة السريعة المقتضبة على "المفهوم"، كان الغرض منها التأكيد على مسألتين: الأولى أن النظام الأمني في الفضاء الرقمي تحول -بفضل ثورة تقنية الاتصالات والمعلومات- إلى قضية تفرض نفسها بتنام مستمر على إستراتيجيات الدول والمنظمات الدولية ذات العلاقة كجزء مهم في إستراتيجيات الدول التي تتناول قضايا الأمن بمفهومه العام. أما الثانية، فهي أن الدول العظمى، تماما كما كانت تناقش قضايا الأمن الدولي فيما بينها، باتت مطالبة بأن تعير هذه المسألة الاهتمام الذي يتناسب والحيز الذي باتت تشغله في محيط العلاقات الدولية، ومن ثم فليس هناك مجال لتجاوزها من جانب، كما أنها تعكس موازين القوى الدولية من جانب آخر.
هاتان المسألتان تعيداننا إلى طاولة محادثات من يفترض فيهما أن يكونا رئيسا أقوى دولتين في العالم اليوم. سلوك بوتين مما رشح من معلومات حول الاتفاق، ومقابله موقف ترامب، يكشفان، كل على حدة، فيما يكشفان، عن بعض التغير في موازين القوى على المستوى الدولي لصالح الأول. ويمكن تلمس ذلك في تصريحين جاء الأول منهما على لسان مسؤولة روسية كانت إحدى أعضاء الوفد الروسي الى مؤتمر قمة دول العشرين روسية سفتلانا لوكاش، أكدت على "أن ما دار من مناقشة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي رونالد ترامب لمسألة الأمن الإلكتروني لا يعني أن الدولتين ستبدآن التعاون في هذه القضية في القريب العاجل".
وعلى نحو مواز، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -في مؤتمر صحفي بعد انتهاء "قمة العشرين" في هامبورج- "أنه اتفق مع الرئيس الأمريكي على تشكيل مجموعة عمل مشتركة لمراقبة الأمن في مجال الفضاء الإلكتروني، واتفقا على توفير الالتزام الصارم بالقانون الدولي في هذا المجال".
أعقب ذلك تصريح صادر عن مصدر في وزارة الخارجية الأمريكية؛ أفاد "بأنَّ الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وافق خلال لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل كامل، على إقامة مجموعة عمل مشتركة حول الأمن الإلكتروني".
يعدُّ ذلك تفاجأ الجميع بتراجع ترامب عن عزمه لإنشاء وحدة للأمن الإلكتروني مع روسيا واكتفى بتغريدة على تويتر شدد فيها على "أنه لا يعتقد أنها يمكن أن تحدث وذلك بعد ساعات فقط من تشجيعه إنشاء تلك الوحدة بعد محادثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتن، (مضيفا) حقيقة أنني والرئيس بوتن ناقشنا إنشاء وحدة للأمن الإلكتروني لا تعني أنني أعتقد إنها يمكن أن تحدث. فهي لا يمكن أن تحدث".
أحد أعضاء الحزب الجمهوري ماركو روبيو قال حول احتمال انشاء لجنة أمن إلكتروني مشترك "على الرغم من أن الواقعية والعملية تتطلبان أن نتعامل مع فلاديمير بوتين، لكنه لن يكون أبدا حليفا موثوقا به أو شريكا بناء يعتمد عليه.... وأن الدخول في شراكة مع بوتين بشأن وحدة الأمن الإنترنت مثل مشاركة (الرئيس السوري بشار) الأسد في وحدة للأسلحة الكيماوية".
في اختصار، انتقلت مسألة الأمن الإلكتروني من مجرد أمن أفراد، ومتابعة لقضايا غسيل الأموال، إلى قضية إستراتيجية تفرض نفسها على طاولة محادثات الدول العظمى والأمن العالمي. ومن ثم فهي في جوهر نتائجها ستعكس الكثير من التحولات في موازين القوى من جانب، وواقع كل من تلك القوى الذاتي من جانب آخر.
وعلى نحو موازٍ يكشف الموقف الروسي عن نزعة هجومية روسية على مستوى العلاقات الدولية، فيما يفضح تردد ترامب عن تلكؤ وتذبذب أمريكي في الميدان ذاته.