عبيدلي العبيدلي
تَرْتَسِم صورتان لمملكة تايلند في أذهان المواطن الخليجي متوسِّط الدخل؛ فهي إمَّا مكان للسياحة الصحية؛ حيث توفر مستشفيات بانكوك خدمات صحية متطورة نسبيا، وبكلفة مقدور عليها نسبيا أيضا، أو ملجأ للسياحة العائلية حيث تجتذب المنتجعات السياحية العائلية أنظار الأسر الخليجية التي تبحث عن الضيافة البعيدة عن السلوك الاستعلائي الذي نجده لدى العاملين في المنتجعات الغربية، التي باتت اليوم ممزوجة بنزعة عدوانية مصدرها اعتبار كل عربي "قنبلة إرهابية موقوتة، حتى يثبت عكس ذلك".
ما يخفى على الزائر الخليجي أنه وراء تلك الابتسامة التي لا تفارق ثغر العاملين في قطاع الخدمات والصناعات في تايلند، تكمن مأساة يعاني منها العمال المهاجرون الذين لا تستطيع العين غير الخبيرة تمييزهم عن سكان البلاد الأصليين. تمتزج تلك المأساة بين ظروف معقدة للحصول على إجازة عمل، وشروط عمل قاسية للعمال الأجانب، ومصائد تنصبها بمهارة فائقة عصابات الاتجار بالبشر التي لا يتورع أصحابها عن ارتكاب المخالفات التي تضمن لهم أعلى نسبة من الأرباح، بغض النظر عن معاناة ضحاياهم.
ومن بَيْن تلك المشكلات الأكثر حضورا في تايلند هي مشكلات الأيدي العاملة الأجنبية، فتماما مثلما نعاني نحن في الخليج من النسبة العالية من العمالة الأجنبية، تعاني اليد العاملة التايلندية من منافسة اليد العاملة الأجنبية الرخيصة، خاصة غير الشرعية منها.
وفي هذا الخصوص، أكَّد رئيس وزراء تايلند برايوت تشان.أو.تشا أنَّ بلاده اضطرت لاتخاذ "إجراءات صارمة بحق العمال المهاجرين غير الشرعيين من أجل الوفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع الدولي لمكافحة الاتجار بالبشر"، جاء ذلك في خطابه أمام المجلس الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا القانون دخل حيز التنفيذ في 23 يونيو 2017.
وفي السياق ذاته، وفي إشارة إلى المشكلات الاجتماعية التي ربما تواجهها مملكة تايلند جراء هذه المشكلة شبه المزمنة، شددت المتحدثة باسم الجيش سيريشان نجاثونج، على "إصرار" حكومة تايلند على معالجة مسألة العمال المهاجرين بشيء من الصرامة التي ربما تبدو أنها -من وجهة نظر البعض- غير إنسانية، فقالت: "إنَّ كل عامل مهاجر غير قانوني يعثر عليه في تايلند سيعتقل ويطرد، (مضيفة) نعتبر العمال غير الشرعيين تهديدا لأن أعدادهم كبيرة، ولأنه لا يوجد تدبير واضح للاهتمام بهم، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى مشاكل اجتماعية".
وتنتشرُ ظاهرة الاتجار بالبشر في صفوف الصيادين التايلنديين؛ فهم "سعيًا وراء تعظيم أرباحهم، حوّل بعض هؤلاء الصيادين المحليين نشاط قواربهم إلى نقل مهاجري الروهينجا بدلًا من صيد الأسماك، حيث تبدو تجارة العبيد مربحة للغاية. إذ كشفت بعض التقارير عن روابط قوية، ومربحة، بين تجارة تصدير المأكولات البحرية التايلندية، وبين عصابات التهريب الدولية التي كانت تحتجز -حتى وقت قريب- الآلاف من مهاجري الروهينجا في معسكرات بالغابات".
ومشكلة العمال المهاجرين غير الشرعيين ليست جديدة في تايلند، وتعود جذورها الحديثة إلى العام 2014، عندما حذرت منظم "هيومن رايتس ووتش" -في تقرير لها حول أوضاع أولئك العمال- من أنَّ المجلس العسكري الحاكم في تايلند، "تسبب في فرار أكثر من 200 ألف من العمال المهاجرين الكمبوديين من البلاد خلال الأسبوعين الماضيين". لكن المجلس الذي تولى السلطة في انقلاب وقع في 22 مايو من العام ذاته نفى تلك التهمة قائلا "أنه يتخذ إجراءات صارمة ضد المهاجرين، على الرغم من أنه أعلن في وقت سابق أنه سيجرى اعتقال العمال المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم".
لكنَّ جُذور المشكلة أقدم من ذلك، فكما يذكر العديد من المصادر أنه في العام 1975، إثر انتهاء الحرب في فيتنام، "هرب نحو مليون لاجئ من كمبوديا ولاوس وفيتنام إلى تايلند، وسارعت الأمم المتحدة والصليب الأحمر والمنظمات الطَّوعيَّة الأخرى في تقديم الطعام والكساء والمسكن والرعاية الطبية. والشيء الذي كان يشغل حكومة تايلند هو طول مدة بقاء هؤلاء اللاجئين، حيث إن الدول التي وعدت بإعادة توطينهم لم تقم بذلك. وهنالك الكثير من النزاعات التي تحَدُث بين القوات الكمبودية المتنافسة على الحدود التايلندية، مما يشكل خطرًا كبيرًا على أمن واستقرار البلاد". وكما يبدو، فإنَّ نسبة عالية من أولئك اللاجئين لم تعد إلى بلادها الأصلية.
وتقدِّر الإحصاءات الرسمية التايلندية أنَّ هناك ما يربو على 2 مليون عامل عير شرعي منتشرين في ربوع البلاد يتوزعون على صناعات مختلفة من بينها صناعة الملابس والأحذية. وبخلاف ما يعتقد البعض، تواجه الأجنبي الباحث عن عمل في تايلند مشكلات جمة، ومكلفة، خاصة بالنسب لمواطني الدول الفقيرة مثل كمبوديا، وفيتنام، حيث يحتاج طالب العمل للحصول على قيد رسمي، وهذا "يتطلب تكاليف مالية وزمنية إضافية. ووفقا للقانون التايلندي، فإنَّ تسجيل تصريح عمل واحد في تايلند يكلف نحو 60-50 مليون باهت (حوالي مليون ونصف- مليونين دولار أمريكي) سنويا".
ورغم هذه المشكلات، وحتى بعد وصول العسكر إلى السلطة واستلام الجيش مقاليد الأمور، لا تزال تايلند على المستوى السياسي، مملكة دستورية، يتولى المجلس الوطني فيها الصلاحيات التشريعية، وهو "برلمان ذو غرفتين تشريعيتين، ويسمى بالمحلية "راتاسافا"، ويتألف من مجلس النواب، وعدد مقاعده 500 مقعد، ثم مجلس الشيوخ، وعدد أعضائه 200. يتم انتخاب أعضاء الغرفتين عن طريق الاقتراع العام. ويشغل كل نائب من مجلس النواب مقعده لمدة أربع سنوات، فيما تدوم عهدة أعضاء مجلس الشيوخ ست سنوات".
وفي خضم تلك المشاكل، يفد الخليجيون إلى تايلند ويغادرونها، ولا تغيب عن أعينهم الابتسامة التايلندية التي تهب إلى استقبالهم، وتلك الرموش الناعسة التي تحرص على توديعهم، حاملة في أعماقها نظرات حزن تحرص على إخفاء تلك المشكلات عن الغرباء لأسباب حضارية نحن غير قادرين على فهمها.