ترامب والإعلام.. الثقة المفقودة

حاتم الطائي

لَا أَحَد يعلم ما الذي يُريده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الإعلام، وعلى ما يبدو أيضًا أنَّ أحدًا لا يُمكنه استيعابَ أبعاد الحملة الشرسة التي تشنُّها الآلة الإعلامية الأمريكية على قطب العقارات الثري الذي اعتلى كرسي الحكم في واحدة من أكبر القوى العظمى في عالم اليوم.. فالحرب الخفيَّة التي كانتْ تُدَار رحاها على مَدَى أشهر منذ إعلان ترامب ترشحه لانتخاباتٍ هي الأكثر مُفاجأة وجدلاً في تاريخ الولايات المتحدة، وحتى بعد وصوله للحكم، بدأت اليوم تبدو للعلن بشكل أكثر عنفًا لن يكون من مجافاة الحقيقة في شيء إن وُصِفَت بـ"حرب تكسير عظام" بين أعداء ألداء، يتربَّص كلٌّ منهما بالآخر.. حربٌ ضروسٌ بَيْن صلف إدارة سياسية، ومهنية إعلام باتتْ مِصْدَاقيته على المحك، في واقع يُعِيد للأذهان معركة الستينيَّات، التي انحاز فيها الإعلام الأمريكي انحيازاً تامًّا ضد الرئيس الراحل فرانكلين روزفلت، بعدما فاجأ الناخبون الجميع حينها بإعادة انتخاب الرئيس المريض مرَّة أخرى، كتاريخ يُعِيد نفسه، ولكن مع اختلاف الشخصيات؛ فروزفلت كان حكيمًا نوعًا ما، بينما ترامب يبدو في نَظَر كثيرين متهورا في كلِّ تصرفاته وتصريحاته.

وقد أَسْهَم الخطأ الذي ارتكبته شبكة "سي.إن.إن"، منذ أيام، بنشر مقالٍ متعلِّق بعلاقات سريَّة بين فريق ترامب وروسيا، في تشكيل حُجَّة جديدة استند إليها ترامب لتجديد هجماته الضارية؛ خصوصاً بعد سَحْب الشبكة للمقال، والاكتفاء بالتوضيح بأن "المعلومات الواردة فيه ليست بالضرورة خاطئة، لكنَّ الإسناد لم يكن كافيًا"؛ وهي الفرصة التي رآها ترامب سانحة لنشر ست تغريدات -على مدى يَوْمَين- حَمَل فيها على الصحافة والصحفيين، وَكَال فيها الاتهامات للجميع ولم يحنثْ.

إنَّ العداوة التي يُبديها كلُّ طرف للآخر كان نتاجها قصفٌ متبادلٌ لا هوادة فيه أو هدنة، في انتظار خاسر؛ فترامب لم يتورَّع يومًا عن استغلال أيَّة فرصة لشن هجماته على الإعلام، متهماً إياه والعامليْن فيه بعدم نزاهة "بلغت مستوى لا يمكن السيطرة عليه"، والانحراف عن نهج خدمة مصالح الشعب لتحقيق مصالح خاصة، إضافة لملاسنات علنية وتوبيخات لصحفيين على الهواء مباشرة في أكثر من مَوْضِع -وُصِفَت في أحيان كثيرة بلقاءات "أشبه بفرق إعدام بالرصاص"- وتهديدات متتالية بتوقيف صحف وقنوات، وتفضيله إجراء مقابلاته مع جهات يمينية أكثر دعما له.. أما الجانب الآخر، فلم يكن أحسن حالا على أيَّة حال؛ فوسائل الإعلام الأمريكية لم تتوانَ لحظة هي الأخرى عن شن هجمات مُضادة منذ إعلان ترامب ترشحه، بل تحوَّلت أغلب التغطيات من مُجرَّد مهمة لإيصال المعلومة للقرَّاء، إلى إستراتيجية لزيادة نسبة الإعلانات وتحقيق نجاح أكبر على أكتاف سقطات مروِّعة لرئيس متهوِّر؛ كانعكاس لتوجُّه ليبرالي لإعلام لا يعترف بالمحظورات، فأمْعنت في التلذذ بخطاباته العنصرية ونبش ماضيه النسائي، وجُنِّدت الصحف والقنوات ومراكز استطلاع الرأي ضده، وتمَّ تشويه صورته أيَّما تشويه، إلا أنَّ ترامب -وعلى الأقل حتى الآن- لا يزال يبدو متماسكًا نوعًا ما؛ إذ تدعمه قوة شعبية داخلية لا يُستهان بها، وقوى سياسية تعمل في الخفاء من أجل إنجاحه، كعُدَّة حرب وعتاد لا يَنْفَد، بل يُستحدث من الدَّاخل نتيجة تفاعلات كيميائية لإعلام بات يفتقد لبوصلة تحدِّد أهدافه من أيِّ نقدٍ يُنشر، اللهم سوى تهكُّمات -في سياق رد الفعل على هجمات ترامب- على تصرُّفات وسقطات، الشخصي منها أكبر بكثير مما يتعلق بإدارة دولة؛ سواءً فيما يخص الدَّاخل أو ما يتخطى الحدود كسياسات خارجية.

الأمر يتخطَّى مُواجهة رئيس مع آلة إعلامية، خصوصا مع ورود تقارير تؤكد ضلوع جهاز المخابرات في تزويد الإعلاميين بملفات عن ترامب وفريقه، وتسريب معلومات سريَّة عن علاقات مُريبة غير مُعلنة مع موسكو؛ كمفاتيح تُفصِح عن الدوْر الخفي للإعلام الأمريكي في صُنع الرؤساء وإسقاطهم، بل ودوره في إسقاط قادة دول في أنحاء العالم قاطبة، بمساعدة كبيرة من هوليوود وأفلامها ونجومها. صحيح أنَّ إيمانًا راسخًا لدى الجميع بأنَّ الإعلام لا يُحارب، ولا يُهان، ولا يُتهم في مصداقيته، ولا تُنزع عنه نزاهته، خاصة في دولة عظمى تدَّعي "أمومة الديمقراطية"، إلا أنَّ تدنِّي مُستوى المهنية في التعاطي الإعلامي الأمريكي في بعض الأوقات حيال أداء الإدارة الجديدة أضافتْ -بشكل عكسي- نقاطًا لصالح ترامب؛ الرجل الذي هو أصلا عدو نفسه إعلاميًّا -بتعامله النرجسي كرجل أعمال لا بوصفه رئيساً عليه التعامل مع الإعلام ببراجماتية يوحِّد من خلالها الأمريكيين المنقسمين حوله- وما الأزمات التي اشتعلت بين ترامب والإعلام على خلفية حظر سفر المسلمين، والتصريحات التي استقال على أثرها مستشار الأمن القومي مايكل فلين، وتعامل البيت الأبيض مع الهجرة غير الشرعية، والتهكم اللاذع على ميكا بريجنسكي وجو سكاربورو مُقدِّمي برنامج "مورنينج جو"، وإهانة مراسل CNN، سوى أدلة على عدم احترام مُتبادل للقيم الإعلامية هُناك من الفريقين؛ رئيسًا وفريقَ عمل وبيتًا أبيض وإدارة جديدة لا تريد أن يَرَى الشعبُ الأمريكيُّ إلا ما تَرَى، وإعلام محلي وافتراضي سَقَط في فخ الشكليات والمظاهر على حساب المهنية المسؤولة في تقييم إدارة رئيس، وليس "كاريزما مُهرِّج" لم يكن بالحسبان يومًا أن يجلس خلف مائدة بيضاوية لإدارة دولة ترسم ملامح عالم اليوم.

العلاقة المتوترة بين ترامب والإعلام ستبقى بلا شك لفترة أطول، ولكن دون أيَّة إمكانية لرسم سيناريوهات تتكهَّن بمن ستكون له اليد العليا؛ كون ترامب من جانبه يُؤمن بمقولة "من ليس معنا فهو ضدنا"، وبالتالي لا يسمح بنهج المسافات المستقلة التي يتطلبها الإعلام الحر؛ وهو بذلك يضع نفسه في صِدَام دائم مع المؤسسات الصحفية المستقلة التي ترفض الانصياع لأوامره؛ كونها تعتبر نفسها مُمثِّلة للرأي العام بمختلف أطيافه. فيما هي -وعلى الجانب الآخر- لا تلتزم حيادًا يُمكن أن يُسهم يومًا في تقويم عقلية إدارية لرئيس يقود ملفات كل شيء بحسابات "البيزنس".