د. سيف المعمري
لا أحد قادر على تمييز أي شيء في الخليج؛ فالمصطلحات والمسميات والقيم تعطي معاني غير معانيها التي تعرف بها في العالم؛ وكأنها منطقة تعيش في كوكب آخر غير الكوكب الأرضي، الذي يتبادل سكانه الأفكار والتجارب الإنسانية اليوم على مدار الثانية، ويتفقون على كثير من القواعد والأسس والمنطلقات والأسس التي تحكم علاقة الأفراد بدولهم.
في هذه المنطقة لا يسمى المواطن مواطنا إنما ابن الوطن، ولا يحظى المواطنون كغيرهم من سكان العالم بهذا اللقب بل هم رعايا، هنا ترفض "الأحزاب" مع أن الناس متحزبون إمّا مذهبياً أو قبلياً أو مناطقياً أو اقتصادياً، هنا تنتج "ديمقراطية" أفضل من الديمقراطية التي تمارسها شعوب العالم المتقدمة، حيث المواطنون يقررون كل شيء بأصواتهم، بينما تعني الديمقراطية هنا ألا يقرر المواطنون أي شيء، ووفق هذا النهج السياسي والفكري في إلغاء وجود المواطن، والتعامل معه ككائن غير واع أو ناضج تم تعزيز شوفينيته تحت مظلة الوطنية، وهنا فرق كبير بين أن تكون شوفينيا تكره الآخر وتتعامل معه باستعلاء وتنكر عليه أية حقوق وبين أن تكون وطنيا محبا لوطنك لكن لا تسيئ إلى الآخرين ولا تشارك في الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال.
في الواقع لم يتوقع أحد أن تلجأ بعض حكومات الخليج والإعلام الذي تسيطر عليه، والمشايخ الذين تستعين بآرائهم في توجيه الناس وتضليلهم إلى إثارة هذه المشاعر الشوفينية التي انتهت منذ زمن طويل، حيث ينسبها البعض إلى جندي فرنسي أسطوري إسمه "نيكولا شوفان"، كان شديد الاندفاع في القتال، شديد الغيرة على فرنسا، كان يقاتل في جيش "نابليون" دون تفكير حول عدالة القضية التي يقاتل من أجلها، وهل هو على صواب أم على خطأ، ولاحقا حمل المصطلح دلالات أخرى وهي التحيّز المفرط واللاعقلاني للجماعة أو الدولة التي ينتمي إليها الفرد، مما يقود الفرد إلى تطوير تلك المشاعر إلى كراهية وحقد أعمى لا يعي النتائج التي ستترتب عليه، واستخدم المصطلح في دلالات أخرى مثل الشوفينية الدينية، والشوفينية اللغوية، والشوفينية الوطنية، هذه الأخيرة هي التي تم توظيفها وتجنيد الناس لها بدون وعي حتى باتوا يستخدمون في لغتهم وكتاباتهم كلمات يترفع عنها الكثيرون، أين ذهبت كل القيم الإنسانية والدينية إذا كان الجميع فجأة سيتحولون إلى أعداء بعد أن كانوا إخوة وجيرانا، هل هذا من متطلبات التعبير عن حب الوطن كما يصوره البعض؟
إنّ الوطنية تقود إلى تعزيز التماسك الاجتماعي، وإلى إطلاق القدرات للنمو بالأوطان وتعزيز التنمية، والعمل بتفان لجعل هذه الأوطان أجمل الأوطان في كل شيء؛ في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم، حيث يصبح المواطن فاعلا في اتخاذ القرارات المتعلقة بوطنه، وفاعلا في مجتمعه حيث يؤسس الجمعيات المدنية ويعمل من خلالها في تحقيق مصالح مجتمعه وحل إشكالياته، حيث يكون فاعلا في الثقافة والإعلام يؤسس منابر حرة مستقلة تنقل الأحداث وتحللها وتقدم آراء مختلفة للناس تساعدهم على تكوين مواقفهم من مختلف القضايا والأحداث، حيث لا يكون أحد مقصياً ومبعدا عن الوطن لأنّ رأيه يختلف مع رأي الحكومات، الوطنية هي التي قادت إلى بناء مختلف الدول، وإنقاذها من المستعمرين والمفسدين، كانت وطنية مستنيرة قائمة على أهداف واضحة، وعلى نكران للمصالح الذاتية، علق كثير من قادتها على المشانق ولم يخونوا أوطانهم، سقط كثير من المؤمنين بها في جبهات القتال، وفي مواجهات هدفها أن تكون راية الوطن خفاقة عالية، وتكون إرادته مستقلة، وثرواته مصانة، وأرضه ملك للجميع بدون استثناءات لا أحد أيا كان له الحق في مصادرة انتمائهم ومواطنتهم بجرة قلم، هل هي حاضرة في هذه المجتمعات؟ هل الجميع في أوقات السلم يتنافسون في خدمة أوطانهم في مؤسساتهم المدنية؟ لا أعتقد أنّ مثل هذه الوطنية حاضرة اليوم؟ إذن ما البديل لكل هذه القيم النبيلة التي لابد أن تغرس بالفعل لا بالقول، بالنماذج الحيّة لا بالوعظ والإرشاد؟ إنّها الشوفينية البغيضة التي أظهرتها الأزمة الحالية والتي لها نتائجها التي قد تستمر لأجيال.
وإذا كانت الوطنية تحقق كل تلك المكاسب فإنّ الشوفينية التي تعزز في الخليج تعمل في داخلها عدم تفكير وعقلانية، تقوم على منطق الغلبة والتشفي والانتقام، وعلى تطويع كل المبررات لذلك، الشوفينية تقوم على تجهيل "عيال الوطن" وعلى التلاعب بعقولهم، وعلى تجنيد عدد كبير من الانتهازيين من الكتاب والصحفيين والمذيعين ورجال الدين على دعمها وتبريرها وعلى إثارة الزوابع وتزوير الأحداث، مثل هذه الشوفينية تتخذ من الشتائم سلاحا لها، وتتجنب أي محاولة للحوار أو المكاشفة أو المنطق أو الاعتراف بالخطأ، تقود إلى بناء نرجسية وطنية تقوم على الاستعلاء والتسليم بالعصمة وإلى التشكيك في كل النوايا، تريد من الجميع أن يؤيدها وإلا فهم إما خائنون أو عملاء أو متآمرون، أو أعداء، مثل هذه الشوفينية لا تقبل التعددية ولا فكرة المصالح المشتركة، ولا الرأي الآخر، ولا مراجعة النفس وتصحيح الأخطاء، إنّما تؤمن بالإقصاء وبتجريد الناس من حرياتهم في الاعتداد بأنفسهم، والدفاع عن مصالحهم، شوفينية لا تنتج أي نتائج إيجابية للأوطان، ولا تحقق أي مصالح ولا تحل أي إشكاليات، فلما يتم تأجيج كل هذه الشوفينية بدلا من بناء مجتمعات المواطنة التي تنجح في حماية أوطانها بالمشاركة الواعية في لحظة الأزمات؟
لا شك أننا أمام تداعيات أخرى لهذه الشوفينية غير المسبوقة في المنطقة والتي تتم رعايتها بشكل رسمي، حيث يحرض الناس على الكراهية من على العديد من المنابر، وأخشى أننا على أبواب تغييرات في المناهج الدراسية في بعض الدول مع بداية العام الدراسي المقبل؛ حيث سيتم وصف بعض الدول "بالعدو"، وبـ"الإرهابيين"، وسيتم إدخال مفاهيم وصفات جديدة إلى المناهج الدراسية وبالذات التربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية والتاريخ والتربية الوطنية واللغة العربية، مما يقود إلى جعل التربية أداة أخرى لتعزيز هذه الكراهية والشوفينية المتطرفة التي وإن غرست بهذا الشكل في هذه الأجيال الصغيرة.
إننا مقبولون على عهد جديد من عهود الصراعات القبلية القديمة ولكن بشكل مختلف لا أحد يتوقع أن يكون بين الإخوة والجيران، وسوف تختفي تمامًا الأفكار الكبيرة التي كان يحلم كثيرون بتعزيزها في المناهج الدراسية مثل فكرة "المواطنة الخليجية"، وستعدل الدروس التي تتناول قيام مجلس التعاون الخليجي، وتاريخه وجغرافيته، وسوف يطالها بعض التحريف، وسوف يعاد تفسير بعض الآيات القرآنية من أجل دعم هذه التوجهات، أتمنى ألا نصل إلى كل ذلك، وأن تخرج بعض أصوات الحكمة من كل هذا الغث الذي نقرأه كل يوم، فالمنطقة ما عادت تتحمل كل هذه المقامرة، وما عادت تربتها تقبل أن تغرس فيها بذور الكراهية، التي أفقدت المنطقة أكثر ثرواتها، وتكاد تفقدها أمنها الذي لا شيء اليوم أثمن منه للحفاظ على ما تبقى من آمال في العيش الكريم.