المجتمع المدني.. أهميّة الدور المنوط به (2 ـ 2)

 

 

عبد الله العليان

والإشكالية كما يقول د. سيف الدين عبد الفتاح عن المجتمع المدني، هي تلك المقاربة المنهجية التي تشير إلى المجتمع المدني العالمي إذ يعتمد في بنائه على الصيغة الغربية المعاصرة لمفهوم المجتمع المدني فإن ذلك يشير إلى اعتماد وتعميم عالمي لمفهوم معروف بمصدرية غربية ومرجعية في الفكر والخبرة الغربيين، كل ذلك يشير بدوره إلى جملة التحيزات المباشرة والكامنة والتي تتعلق بمصادر بناء المفهوم، وخبرته، وبيئته ونمطه المجتمعي، وتصوراته المنهجية وتأثير كل ذلك في العمليات المختلفة من رصد ووصف وجمع وتحليل وتصنيف وتقسيم وتفسير وتقويم. ويتعلق البعض الآخر منها بالنفور من الدولة وضمن عناصر خلط بين الدولة والحكومة والسلطة بل والخلط بين السلطة والتسلطية، وهي محاولة لرصد العلاقة الوحيدة للمجتمع المدني والدولة في شكل المواجهة أو المناقضة، هذه الأنماط من الخلط تثير تداعيات على مستوى الدولة القومية كوحدة للتحليل تثار بدرجة أشد في حالة مفهوم المجتمع المدني العالمي بما يشير إلى إثارة علامات الاستفهام بل والشبهات حول طبيعة ودوافع الترويج المعاصر لهذا المفهوم، واعتباره لدى البعض أحد آليات العولمة وبشكل خاص لصالح قوى السوق العالمية وفي مواجهة الدول. هل ذلك يشكل مساراً بعد اهتمام حلقات التبعية للسلطات الرسمية أن ينتقل إلى اهتمام حلقات التبعية إلى المجتمعات ذاتها، وتوجيه الفاعليات وفق أجندة معدة سلفاً، ربما لا تشكل جوهر القضايا الحقيقية ذات الطابع العالمي. في تعقيبه عن رؤية د. سيف الدين عبد الفتاح قال د. الجنحاني إنّ مفهوم المجتمع المدني قد تحوّل إلى مفهوم كوني رغم نشأته الغربية، ومحاولة إيجاد بديل له في المناطق الأخرى غير الغربية، وبينها المنطقة العربية الإسلامية بحجة أنّ "المفهوم منقول إليها بشكل تعسفي، ودون توافر شروطه التاريخية في هذه المناطق"، كما أكّد ذلك الباحث في دراسته، ويمكن أن نقول ذلك حسب هذا المنطق عن مفهوم الديمقراطية، وعن النظام الانتخابي البرلماني، وعن حرية المرأة، وعن غيرها من المفاهيم. إنّ قوى المجتمع المدني في المجتمع العربي الإسلامي لفي حاجة ملحة إلى التعاون مع جميع المؤسسات التقليدية منها والحديثة لدعم أسس المجتمع المدني ليؤدي رسالته النبيلة، فليس صحيحاً ما أكده الباحث في خاتمة دراسته قائلاً: "إنّ مؤسسات المجتمع المدني تقطع صلة رحمها بمؤسسات تردف بعضها بعضاً، وأدارت ظهرها لمؤسسات تتقاطع معها في الوظائف والأدوار لكونها مؤسسات ارتبطت تقليدياً بالحضارة الإسلامية، بينما هرولت لبناء علاقات عبر قومية ودولية مع مؤسسات شبيهة لها من الخارج وفيه.

في رده على تعقيب د/ الجنحاني قال د/ سيف الدين عبد الفتاح: إذا كانت العولمة تحاول هدم هذه القاعدة المنهجية في البحث، بل ومن الواقع المعاش من جراء مقاصدها في إحداث عملية تنميط كبرى ومحاولة" أن ترسم العولمة تكوين نظام دولي يتجه نحو توحيد مناهجه وقيمه وأهدافه، مع طموحه في ذات الوقت إلى دمج الإنسانية بأكملها داخله. وبطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ، بأنّها تدعم فرضية (التقارب) بل وترسخها (على طريق التنميط). والواقع أنّها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حين تحدد نطاق هذا النظام: فعندما تحث على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب، تكشف بذلك عن عدم ملاءمة هذه النماذج، وعندما تحرض المجتمعات الطرفية على التكيف، توقظ أيضاً آمال التجدد مع المخاطرة في الوقت ذاته بخداعها؛ وحين تعجل بتوحيد العالم فإنّها تحبذ ظهور التفردات وتزيد تأكيدها، وحين تمنح النظام الدولي مركزاً للسلطة مرتباً أكثر من أي وقت مضى؛ فإنّها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدة صراعاته. وحين تسعى العولمة نحو وضع نهاية للتاريخ؛ فإنها تمنحه فجأة معاني متعددة ومتناقضة" هذا ما أقره بادي في كتابه (الدولة المستورد: تغريب النظام السياسي) والذي أعلن فيه في صدر مدخله للكتاب (التاريخ لم ينته). ويؤكد ساندا ذلك أنّ "العولمة تستصحب معها الإعلاء من شأن التفرد". ومن هذه العولمة المصنوعة من الانتصارات والانتكاسات، ومن المقاومات والتوترات تبرز تواريخ جديدة، قد تكون محملة بالإبداعات داخل المجتمعات غير الغربية، كما في داخل النظام الدولي. إنّها القضية الأبدية؛ عناصر العموم والخصوص في مختلف الظواهر. الظواهر تتخذ طبقات خاصة بها ضمن أنماطها المجتمعية والحضارية والمجتمعات المختلفة تشهد تداخلات مختلفة منها ما يتعلق بالتابع منها، ومنها ما يتعلق بالتابع فيها. وها هي العولمة في آخر طبقاتها بعد أن شهدت مقولات حول عالمية (الثقافة) والأنماط الحضارية الواجبة التعميم (التحديث)، والنماذج الفكرية الحرّية بالاتباع (التغريب)، والنظريات المتطورة القائمة على (الإلحاق) و(الالتحاق)، العولمة تريد أن تقصي الخصوصيات والتميزات، ولكن كما يؤكد بادي.. ولأنها (مصنوعة) لا يمكنها أن تصل إلى أهدافها التنميطية، بل من حيث أداة التنميط ستعزز عناصر أخرى تتعلق بالخصوصية والتمايز. إننا نتحفظ على تعميم رتبه -الجنحاني- على تلك المقدمة الصحيحة، وهو الربط الحتمي بين مفهوم المجتمع المدني والليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي؛ سواء في النمط الحضاري الغربي أو النمط الحضاري العربي، ونعني بذلك أنّ البحث في القيم الجوهرية التي ترتبط بالعمل الأهلي وفعالية المجتمعات الأهلية يمكن أن تستصحب عالم مفاهيمها الذي يتعلق بالنمط الحضاري ليس بالضرورة أن يدور في فلك مفاهيم مثل الليبرالية وغير ذلك من أمور.

إنّ المجتمع المدني - الأهلي في فعاليته - لا بد أن يفرض عناصر حكم حر وعادل وفق قيم إنسانية عامة. المجتمع الأهلي القوي يتفاعل في وجوده وفاعليته مع دولة قوية تتسم بالحرية لا الاستبداد وبالفاعلية لا الشمولية، تعديل المفاهيم على هذا النحو هو أمر مقصود. ومِن الأمور المهمة التي يمكن أن ندّعيها في هذا المقام "أنّ المنهج لا يجوز أن يبرز مجرداً من مقولاته ونماذجه ومفاهيمه، لأنّه تشكل فيها ومن خلالها. ومن ثم فإنّ المنهج الذي تكون عبر دراسة النمط الحضاري الغربي أو النمط الرأسمالي يحمل لا محالة هذا النمط، فيحاول إعادة إنتاجه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إذا ما تدخل في دراسة نمط آخر أو حالات تنتسب لحضارة مختلفة، أو بعبارة أخرى يصبح النمط الغربي معياره في رؤية الأنماط الأخرى، ويظل مقياسه فيما يصدره من أحكام عليها، كما أنّ المقولات التي يكون المنهج قد أنتجها وسميت باسمه تصبح كالطوق على عنقه، فلا يستطيع أن يتحرر منها أو يتحرك في أيّة دراسة إلا من خلالها وبتأثيرها.. مضيفاً في فقرة أخرى أنّ مقالة الجنحاني ودعوته للتحاور معه حول المجتمع المدني مجدداً، فرصة للتعرف على ما كتب الدكتور الجنحاني والتعرّف على سيرته ومسيرته الفكرية والتعرّف على اهتمامه الأساسي بالبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي ومحاولة تقليب صفحاته الكبرى، ولا بد للفرد أن يعلن وبحق، أنّ كتابه حول (التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام) كان من الكتب المهمة والعميقة التي استفدت منها كثيراً، كذلك بعض المقالات فيما كتب.

إنّ كتاب (المجتمع المدني وأبعاده الفكرية) يطرح الكثير من التساؤلات حول أهميّة المجتمع المدني أو الأهلي بغض النظر عن المُسميّات والمصطلحات وأثره الكبير في تفعيل دور المؤسسات المستقلة لبناء وعي اجتماعي وفكري يساهم في تأسيس مفاهيم تتسم بالحراك العقلاني والنشاط المقنن الذي يبعد الاحتقان السياسي، ويعزز ثقافة الديمقراطية الواعية التي يساهم في بنائها المجتمع المدني أو الأهلي.