الحروب.. صناعة الموت

حاتم الطائي

تَبْقَى الحربُ دَوْما شيئًا خطيرًا مُدمِّرًا، يلتهم الأخضرَ واليابسَ، مِيْقَاتٌ زمنيٌّ يُوسِّع فيه الشيطان باب الجحيم لسقوط مزيدٍ من الضحايا والأشلاء والجثث، يستخدم أفضل ما في الإنسان لإحداث أسوأ ما يُصيب الإنسان؛ في ظل تطوُّرٍ متنامٍ لآلة عسكرية وحربية جَعَلت من الحروب كارثةَ الكوارث، بتداعياتها عميقة الأثر وطويلة المدى.. ضحايا ومُصابون، لاجئون ومشرَّدون، استنزافات وانتهاكات، انهيارات اقتصادية، هلع، رعب، إرهاب، كلُّها تداعيات مُؤلمة لمعارك طاحنة وقودها أناسٌ يُدْفَع بهم إلى ساحات الاقتتال، لأسباب ما خفي منها أكثر بكثير مما يُعلن عنه.

إنَّها أسوأ وسيلة لحل النزاعات الدولية؛ إذ تحرم الشعوبَ والأفراد امتلاك حقِّهم الشرعي في  الحياة، بل وتسلب حقَّ السيطرة على الأحداث من القيادات السياسية التي قد تُساق إلى حروب قسرية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويُترك الأمر برمَّته في يد جنرالات حرب وبارونات، يهدفون لإعادة رسم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومُصمَّمة بشكل قابل للانفجار في أي لحظة.

ولا أعني هنا حُرُوْب الاستقلال لاسترداد الحُرية والعزَّة من يدِ مُحتلِّ غاشمٍ مُغتصب، وإنما أقصد تلك المنهجية الرأسمالية التي باتت خياراً سهلًا للربح السريع، عبر اختلاق خلافات عبثية بَيْن دولتين، أو صراعات إقليمية مُتعدِّدة الأطراف، لا هدف لها سوى مزيد من القتل والتدمير والتوتر والاختلاف، وكأداةَ تعبير متوحِّشة عن استحالة التوصُّل لحلول أقل ضررًا بين الدول، ناهيك عن رغبات قوى مُتسلِّطة لزيادة هيمنتها على حساب دول مُستضعفة. وأيًّا ما كانت الدوافع والمسبِّبات والرَّغبات المعلنة والدفينة؛ يُمكن القول وبمنتهى البساطة بأنْ "لا فائز في الحروب"، وأنَّ رائحة البارود لا يُمكنها أن تنتصر لقضية، وأن صَوْت الرَّصاص لا يَنْصُر مبدأً، وأنَّ لون الدماء لا يُعبِّر عن موقفٍ، وأن تاريخنا الحديث شاهد عيان على العديد من الحروب التي انتهت بالتعادل الخاسر والمنْهِك، وأنَّه مهما طال أمدها فلابد من جلوس أطرافها إلى طاولة المفاوضات؛ لإجراء نقاشات وحوارات تضمن الوصول لنقاط التقاء؛ فلا تنسى الذاكرة في العام 1950م أيام كانت كوريا خاضعة لحكمين: شمالي تحت حكم الاتحاد السوفيتي، وجنوبي تحت سيطرة الأمم المتحدة، واندلعت حرب توحيد الكوريتين، وكانت أشبه بحرب "تكسير عظام" استمرت شهورًا، تكبَّدتْ 15 دولة فيها خسائر فادحة، قُتِل فيها قرابة مليونان ونصف المليون مدني ومثلهما من العسكريين من الجانبين، إلى أنْ انتهى الأمر باتفاق ثنائي على وقف إطلاق النار؛ فلا هذا وحَّد الأرض ولا ذلك فَعَل، وعاد كلاهما إلى حدوده، وبقي التوتر إلى اليوم مُشتعلاً تحت الرماد؛ لغايات مُضمرة تُمليها وتموِّلها مصالح غربية، ويحدد مساراتها مُؤشر صِنَاعة السلاح.. حروب تتناسل بلا معنى ولا هدف، سوى زيادة حصيلة إيرادات خزائن مافيا "صناعة الموت".

وما أشْبَه اليوم ببوارح التاريخ.. إنَّ أجواء الاصطراع الآنية تحتِّم العملَ على إيجاد طريق إنساني جديد بَعِيْداً عن الاحتراب والقتال؛ طريق يَضْمن لسالكيه عدم السقوط في فخ البربرية وعبادة المال الملوَّث بالدماء، أو الانغماس في حضيض المماحكات، التي لا تؤدي سوى للتمزُّق والتشرذم وتكبُّد خسائر طائلة في الأرواح والموارد، طريق يؤدِّي إلى عالم مُسيَّج بمفاهيم السلام، ومزدان بقيم الوئام.. عالم بلا حروب، ليس كفكرة "طوباوية" بأنْ نظن فجأة بأنَّ الناس سيصبحون كلهم طيبين أخياراً، بل بدوافع وقناعات سياسية بأنَّ الحروب لن تُوْجِد حلولاً، وأنَّ الشرائع السماوية جميعًا لم تتناول القتال كمقصود لذاته، وإنما كخيار اضطراري دفاعي، وفي هذه الفترة من عُمر عالم اليوم، التي يُعاد فيها رسم خرائط الهيمنة السياسية وإشعال الحروب بهدف كسب مزيد المليارات من الدولارات، على العالم أن يُراجع ذَاتَه لتحييد القوى العسكرية، وإعلان هُدنة أبدية توقف استباحة الدماء، وتتبنَّى الأسرة الدولية سلَّم أولويات جديدا، يضع حاجة البشر للتعايش والتفاهم والتعاون والتكامل في مُواجهة المَدَافع والقنابل والأسلحة الفتاكة.

ولعلَّ سجلًّا نَاصِعًا للمواقف العُمانية -قديمًا وحديثًا- يُضرب بها المثل في هذا الخصوص، بفكرها السياسي الاعتدالي غير المنحاز، وإيجابيته المؤمنة بأنَّ اللسان أبلغ بياناً من السلاح، وأن عُرى التفاوض للمِّ الشمل أقوى من أعتى عَتَاد، وهي رسائل اتزان سجَّلها تاريخ الإنسانية لقلعة السلام العمانية بأحرف من ذهب، ستظل نبراسًا للفخر والاعتزاز، ومصدرَ إلهام للبشرية ترتوي من فيض معانيه وعبره ومستواه الراقي لمعزة الإنسان وكرامته، وصون عيشه وحياته؛ من منطلق الكرامة الإنسانية التي وهبها الله لبني البشر ليعيشوا في الأرض ويعمروا فيها، لا لكي يُقْتَل ويُدَمَّر وينشر الفوضى.. فيا لَيْت لحظة صَمْتٍ تُوْقَفُ فيها طُبول الحروب، ويُحتَكمُ فيها إلى الحوار كمبدأ، ومنطقية التفاوض وسيلةً!!