عيسى بن علي الرواحي
اقتربنا من منتصف الشهر الفضيل الذي تتسارع أيامه تحث الخطى نحو الرحيل كحال سائر الأيام في سائر الشهور والأعوام، وما رمضان من مبتدئه إلى منتهاه إلا أيام معدودات؛ في إشارة أخرى إلى أنّه سيمر سريعا كحال الضيف مهما أطال المكوث فإنّه راحل، ويبقى العاقل الفطن من استغله حق الاستغلال مستثمرا أيامه ولياليه في التقرّب إلى الله بصنوف الطاعات والقربات، حيث تضاعف الأجور والحسنات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ولا يخفى على المسلم فضل رمضان الفضيل، وأنّه شهر المغفرة والرحمة والعتق من النيران، وأنّ الأعمال فيه مضاعفة أكثر مما سواه من الشهور، فهو سيد الشهور وأعظمها، النافلة فيه بفريضة، والفريضة فيه بسبعين فريضة، وفيه ليلة خير من ألف شهر، فيها تتنزل الملائكة تحف الكون بأسره بسلام الله حتى مطلع الفجر(إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفجْرِ - (سورة القدر).
كل ذلك يدركه الصائم، ويدرك جيدا أنّه قد لا يصوم رمضان آخر غيره، فقد يتخطفه ريب المنون، كما تخطف غيره في غفلة وعلى حين غرة، ولكن أين هم المشمرون عن ساعد الجد الذين أحسنوا استغلال رمضان وتسخير أوقاته كلها في طاعة الله، والتقرب إلى ربهم بما يستطيعون من طاعات وعبادات، مبتدئين ذلك بالتوبة النصوح؟ كثيرون من يحسنون استغلال رمضان، ويصومونه حق الصيام، ويقومونه حق القيام، فيخرجون منه وقد شملتهم رحمة الله تعالى، ومغفرته الواسعة، فحق لهم الجائزة الكبرى يوم فطرهم في عيدهم، وهؤلاء هم الرابحون حقا، الفائزون صدقا، وليس غيرهم.
وبالمقابل فكثيرون هم من يعيشون رمضان بعبثية مقيتة وعشوائية بغيضة، فلا حظ لهم من الصيام إلا الجوع والعطش، ومن القيام -إن قاموا- إلا التعب والنصب، كثيرون هم من يعيشون رمضان بعادات ألفوها، وتقاليد جبلوا عليها، وطقوس ورثوها أبًا عن جد، فلم يستقبلوه بما يليق به من التوبة النصوح والقلب السليم والهمة العالية، ولم يتزوّدوا منه بزاد التقوى تلك الغاية الكبرى من هذه الفريضة المقدسة، وكثيرون هم من يهدرون أوقاته الغالية وفرصه الثمينة في غير منفعة ولا مصلحة ولا قربة إلى الله، وكثيرون هم من يسوء حالهم في رمضان أكثر من سائر الشهور الأخرى، فإن كان مردة الشياطين قد صُفدت في هذا الشهر الفضيل، فقد صاروا هم بالنيابة عنهم في غيهم وإغوائهم وضلالهم وإضلالهم، ألا فما أكثر عبث الصائمين وصوم العابثين!
لا أتطرق إلى مشاهد الرحمة الكثيرة في هذا الشهر الفضيل، وروحانياته المنتشرة في شتى البقاع وسائر الأوقات، فهذا هو الأصل والأساس في هذا الشهر العظيم المبارك، ولعلي قد تحدثت عن ذلك في مقالات سابقة، ولكن حديثي عن المشاهد المغايرة تلك المشاهدة التي لا تتوافق وشهر الصيام، ولا تتواءم وسلوك الصائمين، وهي مشاهد أكثر من أن تحصى، مشاهد وإن لم تفضِ إلى إفساد الصوم وبطلانه ووجوب قضائه، لكن المُسلَّم به أنها أقرب إلى العبث وجهل قيمة الصيام والغاية منه وهدر فرصه الثمينة وروحانياته المباركة، كما أنها قد تكون كسبًا للذنوب والآثام، وإن لم تكن مبطلة للصيام، سواء فيما يتعلق بالعادات التي تتنافى مع غاية الصيام أو ضياع الأوقات أو كسب المعاصي واجتراح السيئات... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
issa808@moe.om