دعوة الجميع إلى إخراج الأموال للمحتاجين لتحقيق العدالة الاجتماعية

مساعد المفتي العام للسلطنة: الإنفاق في سبيل الله متصل بالقيم والأخلاق الإسلامية.. وعلى المتصدق التخلي عن وساوس نقص المال

 

مسقط - أحمد الجرداني

يؤكد فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن الإنفاق في سبيل الله في صوره المتعددة أمر مرتبط ارتباطا وثيقا بالقيم والأخلاق التي حثنا عليها الدين الحنيف، مشيرا الى أنه يتعين على المسلم المتصدق أن يتخلى عن وساوس الشيطان التي تمنعه من الإنفاق في سبيل الله بحجة أن المال سينقص.

ويواصل الخروصي حديثه عن الإنفاق في سبيل الله من خلال البرنامج الإذاعي "دين الرحمة" والذي كان يبث قبل سنوات على إذاعة سلطنة عمان، من إعداد الشيخ الدكتور سيف بن سالم الهادي، ونعيد نشره هنا لتعم الفائدة لجميع القراء. وقضيّة الإنفاق في سبيل الله من القضايا الرئيسية في الدين الإسلامي، والتي تتصل بقيمه ومبادئه، كما تتصل بأحكامه وبأصول شريعته فقهاً وعملا، وتظهر آثاره وتتجلى حكَمه في واقع حياة الناس أفراداً وجماعات.

 

 

 

مؤمن بخيل؟!

وردا على سؤال ما إذا كان المؤمن قد يكون بخيلا، يقول الخروصي: قد يكون المؤمن بخيلاً، لكن لا يعني هذا أنّه لا ينفق النفقات الواجبة عليه، ولا يعني هذا أنه لا يبادر إن كان هناك من وجوه البر والإنفاق الواجبة أو التي يظهر خيرها وعموم نفعها أنه سوف يتقاصر عن ذلك؛ لكن بخله يمكن أن يظهر في ألا يكون مثلاً كريماً مع ضيفه.. أن لا يكون باسطاً يده لعياله وأهل بيته، ومع ذلك هو مأمور أي لم يأت الشرع بالثناء على هؤلاء، وإنما جاء الشرع لكي يبين في مقابل هذه الصفات التي وردت في هذا الحديث أنّ هناك صفةً لا يمكن أن يُطبَع عليها المؤمن مع أنه قد يُطبَع على خصالٍ غير حميدة كثيرة إلا أنه لا يمكن أن يُطبَع على خصالٍ أخرى، فهذه من الخصال التي ورد ذكرها في هذا السياق للتمثيل على أنها من الخصال غير الحميدة.

واستدرك أنه مع ذلك فإن المسألة لا شك أن مبناها وأساسها حسن إيمان هذا المرء، ومع صدق إيمانه وحسن ظنه بربه تبارك وتعالى فإن سخاء النفس وكرم ذات اليد اللذان يدفعانه إلى أن يكون من المنفقين في وجوه الخير وفي سبيل الله عز وجل يحتاج إلى دُربَةٍ كما باقي الصفات.. صفات الخير من الحلم والرحمة والكرم وغيرها من الصفات النبيلة والصدق والأمانة والوفاء وغيرها هذه لابد لها من تربية.. لابد لها من دُربَةٍ.. لابد من أن يعاند المرء فيها نفسه الأمارة بالسوء، فإذا حدثته نفسه أنه بنفقته وبتصدقه في وجوه الخير سوف يكون ذلك مجلبة له لنقص المال فإنه يدفع عنه هذا الوسواس بتذكر أن الله سبحانه وتعالى يَعِدُهُ مغفرةً ورحمةً، وأن الشيطان يَعِدُهُ الفقر، وأن الله سبحانه وتعالى قد وعده ببركة المال، وأن النبي-صلى الله عليه وسلم-قد بيَّن له أن المال لا يمكن أن ينقص حينما يبذل ماله في ابتغاء مرضاة الله عز وجل فيدفع عن نفسه.

وأضاف: بالتالي هو بحاجة إلى علمٍ.. مع هذه الدُربَة لابد له من علم، ولابد له من أن يتعود، وأن يكون ذلك كما قلتُ أن يعوِّد.. أن يجعل من نفسه مثالاً.. أن يتعلم.. أن يعوِّد أهل بيته.. أن يتفقد هذه المواضع ولتكن -كما قلتُ- بدايةً من الأمور التي قد لا يحتاج هو إليها ولكن غيره لا يزال قادراً على أن ينتفع منها، لنأخذ مثالاً بالكثير من المقتنيات المعاصرة من أجهزة هواتف ومن أجهزة حواسيب ومن أجهزةٍ إلكترونية ومن أثاثٍ منزلي مما يُركَن ولا ينتفع منه في حين أنه يمكن أن يستفاد منه ممن قدر الله سبحانه وتعالى عليهم قلة ما في اليد. وأكد أن هذا الحال بالنسبة للوجوه الأخرى من وجوه الخصال المرتبطة بالإنفاق، إذ إن موضوع الإنفاق متصلٌ بسلسلةٍ من القيم والأخلاق، فهو متصلٌ بالتضحية وبالكرم، وبالتخلص من البخل والشح والهوى، ومن الإيقان بأن هذا المال الذي هو بيد هذا العبد إنما هو مال الله سبحانه وتعالى، وأنه بإنفاقه في وجوه البر باعتدالٍ دون إسرافٍ أو تبذيرٍ سوف يعوِّضه الله تعالى خيراً مما أَخَذَ منه.

وحول الحديث الذي يقول عن ابن عمر قال: "أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصِب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها"، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يُورَث، ولا يُوهَب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يُطعِم صديقاً غير متمولٍ فيه".

ويجيب فضيلة الشيخ الدكتور كهلان الخروصي قائلا: باختصارٍ شديدٍ هو الوقف، فرسول الله-صلى الله عليه وسلم-أرشد عمر بن الخطاب إلى أن يجعل وجه صدقته وقفاً في سبيل الله عز وجل بحيث يُحبَس الأصل وتبقى المنفعة أو الغلة هي التي يُنفَق رجعها في وجوه البر المختلفة التي جعلها عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- في هذه الرواية في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وفي الضيف، كما في من يتولاها - ما نسميه نحن بوكيل الوقف- أو لضيف وكيل الوقف أو صديقه.

وتساءل الخروصي: لماذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوقف؟ وقال: لأن نفعه وخيره سوف يظل إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، هكذا الأصل فيه؛ ولذلك في الأصل لا يباع أصل الوقف وإنما يُحبَس، وتنتقل الملكية عن هذا الواقف بمجرد ثبوت الوقف أو بمجرد وفاته على اختلافٍ عند أهل العلم؛ لكن ليس لورثته بعد ذلك أو لأي أحدٍ كان أن يغير من طبيعة ملكية هذا الوقف بأي تصرفٍ ناقلٍ للملكية اللهم إلا في حالاتٍ ضيقةٍ كأن يراد أن يُستبدَل به ما هو خيرٌ منه من الأصول والأحباس.

وتابع: لنتأمل في قول عمر بن الخطاب لما جاء يسترشد ويسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوجه الأفضل للإنفاق سوف نجد أنه يقول: "إنّي أصبتُ أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه"؛ ولذلك نحن نتذكر قول الله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...)؛ ولذلك هذا الميدان الذي ينبغي للناس أن يتنافسوا فيه وأن يحرصوا عليه وأن يتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له أو صدقةٍ جارية"، وأكد الخروصي أنّ هذه هي الصدقة الجارية التي يجري خيرها ونفعها، وبجريان خيرها ونفعها يجري ثوابها وأجرها عند الله تبارك وتعالى.

إنفاق العلم

وفي سؤال حول البعض الذي يرى أن مشكلاتٍ معينة قد تكون موجودة بين الناس بسبب عدم وجود نوعٍ آخر من الإنفاق، وهو عدم إنفاق بعض العلماء من أوقاتهم للتفرغ لتعليم الناس وتثقيفهم في أمور دينهم، فجاء رد فضيلة الشيخ حول هذا الموضوع قائلا: إن هذه النقطة تشتمل على أمرين، الأمر الأول: الإشارة إلى أن الإنفاق يكون بحسب الرزق الذي يهبه الله تعالى للعبد، بمعنى أنه لا يُشتَرط فيه أن يكون إنفاقاً من المال فقط، بل يمكن أن يكون متعدد الوجوه، وهذا عنصر من العناصر التي كنا نريد أن نتعرض لها، ونحن نتعرض لها الآن-، وبالتالي فمن وهبه الله علماً فليكن إنفاقه من ذلك العلم، ومن وهبه الله تعالى صحة وعافية فليكن إنفاقه بمشاركة إخوانه فيما فيه نفعٌ للمجتمع بمقتضى ما يحتاج إلى قوةٍ بدنيةٍ، ومن وهبه الله سبحانه وتعالى جاهاً عند الناس فإنه ينبغي له أن يبذل وجهه في مصالح الناس، ومن وهبه الله سبحانه وتعالى شرفاً فإنه ينبغي أن يكون إنفاقه من هذه المنزلة التي بوأه إياها ربه تبارك وتعالى فيسعى في الإصلاح بين الناس، وفي قضاء حوائجهم وفي السعي في ذممهم، وهكذا كل من وهبه الله سبحانه وتعالى نعمةً من النعم فإنه يمكن أن ينفق منها، لنقل مثلاً أن أحداً من الناس وهبه الله تعالى ملكات في ملكاتٍ تقنية فإذاً هو يمكن له أن ينفع الناس بمساعدتهم فيما يحتاجون إليه من أمورٍ تقنيةٍ الكترونيةٍ ويساعدهم في ذلك، وهكذا يكون إنفاقه.

وحول الحديث الذي يقول: "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".

فبيّن فضيلة الشيخ قائلاً: إن هذا الحديث فيه من الحث والحض للناس ما لا يخفى، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبين أن ملكين يدعوان كل يومٍ للمنفق ولذلك الذي لا ينفق، فيدعوان للمنفق بالخلف، وهذا يعني أن يُخلِف الله تعالى عليه خيراً مما دفع وأعطى، ويدعوان -أي هذان الملكان- يدعوان للممسك الذي لا ينفق والذي يتلف ما لديه في اللذات والملاهي ولا ينفقها في سبيل الله عز وجل وفي طرق الخير هذا يدعوان عليه بالتلف وبعدم البركة، وهنا نُذكِّر بأن الله تعالى يقول: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).

وتابع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الصدقة تدفع البلاء"، ويقول: "داووا مرضاكم بالصدقة"، وهذا حديثٌ آخر يضاف إلى جملة الأحاديث التي بينت فضل الصدقة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزل المثوبة والأجر للمتصدقين المنفقين، وأن يخلف عليهم خيراً في الدنيا والآخرة، وأن يؤلف بين القلوب لمثل هذه القيم والمبادئ التي تدعو إلى تآلف المسلمين، وإلى تآخيهم وإلى تراحمهم وتعاطفهم.

تعليق عبر الفيس بوك