زيادة السباق بين التغيير والكارثة

 

مرتضى بن حسن

الثورة الصناعية التي بدأتْ في بريطانيا في القرن الثامن عشر، وانتشرت في بلدان أوروبا الغربية، ثم إلى الولايات المتحدة، أدت إلى إحلال الميكنة بدلا من العمل اليدوي. وقد أدَّتْ تلك الثورة الأولى إلى الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر، والتي كانت مدخلا إلى الثورة التكنولوجية الأولى، وتداعياتها التي لا تزال مستمرة.

وفِي تلك الفترة، بدأتْ بريطانيا الرائدة باختراع المحركات البخارية التي تعمل على الحرارة، من خلال العمل على مكائن معينة، وسرعان ما تحوَّلت إلى آلات سريعة ومنتظمة لا تعرف الكلل، شريطة تزويدها بالفحم الحجري والصيانة اللازمة.

وبدون شك، فقد ْعزَّزت الثورة الصناعية بشكل واضح من قوة بريطانيا العظمى. وقد تبيَّن أنَّ أية دولة تحذو حذوها ستتمتع مثلها بارتفاع نسبي في الإنتاج والقوة القومية. أما الدول التي تعجز عن انتهاج سبيل التصنيع فسوف تبقى عرضة للأذى. ومثلما ثبت -بالرغم من كل المشاكل- أنَّ الإخفاق في محاكاة الممارسات البريطانية يعدُّ مشكلة كبيرة بحد ذاته. أما النجاح في محاكاة تلك الممارسات، فقد كان ينطوي على تغييرات عميقة في أنماط الحياة والعمل وكسب الرزق. وهكذا تقدم الغرب ولا يزال، فيما بقت الدول الأخرى مُتأخرة.

ومنذ خمسينيات القرن العشرين، بدأتْ البحوثُ العلمية المستمرة مؤدية للثورة التكنولوجية الحالية. شهد عقد التسعينيات اكتمال ونضج الثورة التكنولوجية التي ما زالت تزحف بسرعة هائلة، وهي ثورة غير مسبوقة تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة وبوتيرة سريعة.

وهذه الثورة تختلف عن الثورتين الصناعيتين في عدد مهم من الوجوه، فبينما كانت الثورة الأولى تعتمد على البخار والميكانيكا والفحم والحديد، وعلى الرأس المال العصامي، وقوة الدولة العسكرية المباشرة لتأمين الأسواق من خلال الاحتلال العسكري السافر، وبينما اعتمدت الثورة الثانية على الكهرباء والنفط والطاقة النووية وفن الإدارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة، فإنَّ الثورة الثالثة تعتمد على العقل البشري والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية والكمبيوتر المتطوِّر والذكاء الصناعي، وتوليد المعلومات في كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة، واختزان المعلومات واستردادها وتوصيلها بسرعة متناهية، وتعتمد على الشركات العملاقة متعددة الجنسيات كأوعية تنظيمية لكل هذه العناصر ومضاعفة المعرفة البشرية في كل شأن من شؤون الحياة.

ويقدر العلماء أنَّ حجم المعرفة الإنسانية حتى بدايات القرن العشرين كانت تتضاعف كل قرن ونصف تقريبا، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت تتضاعف كل ربع قرن، وفِي التسعينيات من القرن المنصرم فإنها كانت تتضاعف كل عشر سنوات. أما الآن، فإنها تتضاعف كل سنة ونصف تقريبا، ويقدَّر أنها ستتضاعف قريبا كل 12 ساعة تقريبا. أي أنَّ المعرفة المتولدة خلال السنوات المقبلة ستتضاعف مرتين كل يوم عمَّا تراكم من معرفة إنسانية منذ بداية التاريخ المسجل عند الإنسان.

ولأنَّ العقلَ البشريَّ -وليس القوة العضلية أو الميكانيكية- هو العمادُ الأول لهذه الثورة التكنولوجية الثالثة -وما ستليها من ثورات قادمة- ولأنه يمثل طاقة متجددة لا تنضب، فإنَّ هذه الثورة لن تكون حكرًا للمجتمعات الكبيرة المساحة أو الكثيفة السكان، أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية، إنَّها ثورة يمكن لجميع شعوب الأرض أن يخوضوا غمارها؛ سواء كبيرة أو صغيرة إذا ما أحسنت إعداد أبنائها تربويًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا لذلك، وتمكنت من أن تتخلص من عصبياتها القديمة وانشغالها بصراعاتها عن ماضٍ لن يعود.

ويبدو واضحاً اليوم أننا إزاء شكل جديد من التطور المجتمعي، يعتمد في سيطرته ونفوذه على المعرفة عموماً والمعرفة العلمية منها بشكل خاص. مثلما يعتمد على كفاءة استخدام المعلومات في كل مجالات الحياة، حيث يتعاظم فيه دور صناعة المعلومات بوصفها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصاديات الحديثة، وتتعزز فيه مكانة الأنشطة المعرفية لتتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيراً في منظومة الإنتاج الاجتماعي.

وكان التطور الأبرز في هذا المشهد ظهور نمط معرفي جديد يقوم على وعي أكثر عمقاً لدور المعرفة والرأسمال البشري في تطور الاقتصاد وتنمية المجتمعات، وهو ما يطلق عليه "اقتصاد المعرفة". فقد أصبحت المعرفة مورداً اقتصاديًّا يفوق بأهميته الموارد الاقتصادية الطبيعية، بل إن القيمة المضافة الناتجة عن العمل في التكنولوجيا كثيفة المعرفة تفوق بعشرات أو مئات المرات القيمة المضافة الناتجة عن العمل في الزراعة أو الصناعة التقليديتين. ويكفي إلقاء نظرة مقارنة على مساهمة القطاعات الاقتصادية والشركات التي تعمل في مجالات الذكاء الصناعي والبرمجيات والتقانات الحيوية والزراعة المعدلة وراثياً وبعض أنواع العقاقير إضافة إلى الاتصالات وأنظمة التسلح.

ويترتب على هذه التحولات نتائج وآثار مباشرة وبعيدة المدى في آن. فلم تعد المعرفة سلطة وقوة فقط، بل أصبحت أبرز مظاهر القوة في عالم اليوم ولم يعد مجدياً بالنسبة للدول والمجتمعات التي تحاول تنمية اقتصادياتها واللحاق بركب التقدم العلمي تجاهل هذه الحقائق أو التأخر في أخذها بالحسبان.

ولعلَّ على رأس هذه الأولويات: إجراء زيادات حاسمة في الإنفاق المخصَّص لتعزيز إنتاج ونشر المعرفة، خصوصاً في مجالات التعليم بمراحله المختلفة والبحث العلمي بمراكزه وميزانياته، فضلاً عن إستراتيجيات بناء القدرات البشرية، بما في ذلك إعداد الخبراء والباحثين وتشجيع الابتكار والبحث العلمي وبراءات الاختراع وحماية المتفوقين.

وإذا ما نظرنا حولنا اليَوْم، فسنرى أنَّ الانفجار التكنولوجي المعرفي يعم البلدان المتقدمة اقتصاديا، والتي يشهد اغلبها نموا سكانيا بطيئا بل سلبيا أحيانا، فيما يحدث الانفجار السكاني في الأقطار ذات الموارد التكنولوجية المعدومة أو القليلة، والتي تملك حفنة صغيرة أو معدومة من العلماء والعمال المهرة، واستثمارا ضعيفا أو معدوما في مجالي البحث والتطوير والاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجي، كما تسود فيها تحيزات ثقافية وأيديولوجية تعارض التغيير. وتكنولوجيا العالم المتقدم تنطوي على اذى لتلك الأقطار الأكثر فقرا وتأخرا في المعرفة العلمية حين تحيل أنشطة متزايدة الى مشروعات لا جدوى منها. والاكتشافات العلمية المتتالية إذا لم نتمكن أن نستوعبها فسوف تقوم بتهميش أكبر لاقتصاديات تلك الدول. وإذا لم تتدارك الأمور، فإنَّ التكنولوجيا الحديثة سوف تكون أكثر فأكثر عبئا على كواهل تلك الدول؛ وبالعكس سوف تنطوي على منفعة كبيرة اذا ما تم استيعابها. إنَّ كيفية إدارة الموارد البشرية والتكنولوجية لتلك الدول -بما في ذلك نحن- يلعبان دورا كبيرا في تحديد قدراتها على مواجهة التحولات الكبيرة الجارية.

إنَّ قوى التغيير التي تواجهنا عميقة التأثير ومعقدة ومترابطة، بحيث لا تحتاج إلى ما هو أقل من إعادة تعليم معظم العرب، وإلَّا فإنَّ السباق بين التعليم الحديث والكارثة سوف يزداد شدة، وهو سباق تزداد حواجزه ارتفاعا لدى اقترابنا من العقد الثالث في القرن الحادي والعشرين.

إنَّ التاريخَ يَجِيء دائما ليقدم قوائمه بالفائزين والخاسرين؛ ذلك أنَّ التغييرات الاقتصادية والعلمية والتطورات التكنولوجية، شأنها شأن الحروب والدورات الرياضية، لا تنطوي في العادة على منفعة لجميع الأطراف. إنَّ مَنْ ينتفع بالعلم والتكنولوجيا هو الجماعات والأمم التي غَدَتْ قادرة على تسخير العلوم والوسائل الحديثة لمصلحتها، فيما لحق الضرر بالأمم الأخرى الاقل استعدادا للاستجابة للمتغيرات التكنولوجية والثقافية والعلمية.

appleorangeali@gmail.com

الأكثر قراءة