إعادة صياغة الفكر الإسلامي

د. يحيى أبو زكريا

قال تعالى في محكم التنزيل: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، وقال أيضا: "ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين"، وعن معاذ بن جبل قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في سفر، فقلت: يا رسول الله حدثنا بما لنا فيه نفع، فقال: إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن، فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان". وقال الشاطبي في الموافقات: إن كتاب الله قد تقرر أن كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة.

أمَّا السيوطي، فقال في "الإتقان": وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع فيه علم كل شيء، وأبان فيه كل هدْيٍ وغي. فترى كل ذي فن منه يستمد وعليه يعتم "، وقال علي بن أبي طالب عن القرآن: واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدًى أو نقصان من عمًى. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً؛ فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاءً من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق... وملايين الأقوال التي قيلت في القرآن الكريم المحفوظ بأمر رباني إلى قيام الساعة.. ولأهميته القصوى ولكونه المصدر الأول للرؤية الشرعية والعقدية والإسلامية في كل تفاصيلها، فقد كثرت التفاسير وتعددت بين المتقدمين والمتأخرين، وأصبح التفسير ذا مناحٍ متعددة؛ فهناك التفسير بالقرآن، وبالسنة والتفسير باللغة والعقل والعلم وهناك التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي التفسير بالمأثور وهو تفسير القرآن بالقرآن نفسه، وبالسنة وبالآثار عن الصحابة والتابعين، والتفسير بالرأي هو التفسير بالاستنباط والاجتهاد  وبات لكل ملة ونحله مدرستها التفسيرية؛ فهل أضرت كثرة التفاسير وتناقضها أحيانا بزبدة القرآن ووجهته الربانية، ومن أشهر التفاسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري أو ما عرف بتفسير الطبري، الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي، وتفسير القرآن لأبي المظفر السمعاني، ومعالم التنزيل المشهور بتفسير البغوي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي، وتفسير الزمخشري، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، ورموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز للحافظ عبد الرازق الرَّسْعني الحنبلي، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي، وتفسير الطبرسي، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي، وتفسير العياشي، وتفسير هيمان الزاد ليوسف بن طفيش، وتفسير الميزان للسيد الطباطبائي، وحقائق التأويل الشريف الرضي، والثمرات للثلاّئي، وشافي العليل للنَّجري، ومنتهى المرام لمحمد بن الحسين، طبعا ذكرت مؤلفات لكل المذاهب الإسلامية بعضها وليس كلها لأنني أؤمن بالتلاقي والتواصل في كل التفاصيل وبالأخص في موضوع القرآن الكريم.

ويُعتبر تصحيح الأفكار والتصورات والمنطلقات الفكرية والذهنية مسألة ضرورية من أجل تصحيح الأوضاع العامة في خط طنجة-جاكرتا، والمحنة الكبرى التي تعصف بعالمنا العربي والإسلامي جذورها الأساسية ضاربة في بنيوية الفكر العربي والإسلامي؛ فلطالما امتطى صهوة النص المقدس التخلف والاستبداد والديكتاتورية والظلامية والإقصاء والاستئصال والطائفية والمذهبية والتحنط والجمود وقتل الآخر واحتقار الإنسان وظلمه بسبب مذهبه أو فكره أو انتماءاته.

لقد أسقط المتقدمون والمتأخرون كل الأفهام على النص المقدس وجعلوا من أفهاهم عين النص فاختلط فهم البشر بالنص ومع تراكم الأحداث وإنقاء الأيام تراجع النص وتصدر المشهد الديني فكر البشر الذي أصبحا دينا ومذهبا وملة وطائفة، وفي الوقت الذي كان النص يهدف فيه إلى إسعاد الإنسان، بات الفهم الجديد للنص لمحاربة الإنسان وإنهائه.

وأخطر ما في الأمر أن فهم النصر بالكيفيات المتعددة، أصبح هو المقدس؛ وبالتالي فرض حصار على مناقشته، ومن قال بالتحقيق قيل عنه زنديق. ومع الانهيارات الكبرى في عالمنا العربي والإسلامي، يحق لنا أن نتساءل: ألا يحق لنا أن ننتقد الفكر الديني وما هي حدود المعقول واللامعقول في سياق النقد، والتعامل مع ظاهرة التطرف والإرهاب هى عملية شديدة التعقيد يجب أن تنطلق من تحليل عميق للواقع الديني والفكري والعقدي الذي جعل القتل سبيلا إلى الجنة والحور، لقد عرفت أوروبا وضعا مشابها في مرحلة النهضة واجتهد المفكرون الغربيون في مسألة تحرير العقل والقضاء على التحجر، وحتى نكون علميين وموضوعيين ونتقي الله في أمتنا ونتحمل مسؤولية الفكر، يجب أن نشير إلى أنَّ الدعوة لنقد الفكر الديني لا تعني مطلقا نسف منطلقات الشريعة الإسلامية القرآن الكريم وصحيح الأحاديث النبوية، بل المقصود بالفكر الديني هو كيف تعاطى العقل المسلم مع الكتاب والسنة الصحيحة وما هي إستباطاته في هذا المجال؟!

طبعا هناك من نسف الدين من أساسه كما فعل صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني، وعلى منواله سار محمد أركون الذي نسف الكثير من البديهيات المتعارف عليها بين المفكرين المسلمين؛ فهو يدعو لتجديد الفكر العربي والإسلامي، ولكن دون تقديم البديل المتكامل، فما جدوى النسف دون تقديم البديل، ألا يصبح فكرنا عندها كالزوجة المعلقّة بدون مرتكزات نظريّة وبدون بديل ننطلق منه لبناء النهضة. ويقول أركون إنَّ علماء الاجتهاد في الإسلام قد جنوا على الاجتهاد عندما فرضوا مجموعة من الشروط والمقاييس لا يصح الاجتهاد بدونها. وفي ذلك يقول محمد أركون في كتابه من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي (صفحة 11): نقصد بذلك مؤسسّي المذاهب الكبرى اللاهوتية-القانونيّة الذين ثبتوا للقرون التاليّة المدونّات القانونيّة والعقائد الإيمانيّة الأرثذوكسيّة وعلم أصول الفقه أي المعياريّة الضروريّة من أجل استنباط الأحكام بشكل صحيح من النصوص المقدسّة القرآن والسنة، وهكذا نجد أمامنا في بضع كلمات فقط كل شروط ومحدوديّة ممارسة الاجتهاد في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، كما أنَّ مرتضى مطهري وضع منهجا كاملا في نقد الفكر الديني.