هل نجحت العلمانية الغربية في استئصال الموروث الديني؟!

 

 

د. يحيى أبوزكريّا

 

لم تنجح العلمانيّة بالغرب في استئصال الدين من الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ حيث أصبحت العديد من الأحزاب السياسية الفاعلة في الغرب تقرن عنوانها السياسي بالمسيحيّة وقد استقطبت لذلك أعدادًا هائلة من الأنصار.

ويوجد في الغرب مئات الكليّات اللاهوتية والمعاهد الدينيّة التي تُخرِّج على الدوام قساوسة ورجال دين يُشرفون على إدارة الكنائس والمدارس الدينيّة المُنتشرة في الغرب وفي بعض البلاد العربية والإسلاميّة وفي القارة الإفريقيّة.

وتنص القوانين الغربية على حريّة المعتقد وهو الأمر الذي أتاح للمسلمين فتح مدارس دينية خاصة بهم وتضطلع بمهمة تعليم الدين الإسلامي واللغة العربية لأبناء الجاليّة العربية والإسلامية، ولا تتدخل السلطات السياسيّة في هذه المدارس الإسلامية بل في بعض الدول الغربية كالسويد والدانمارك والنرويج تقدم البلديّات دعمًا كبيرًا لهذه المدارس الإسلاميّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علمانيّة الغرب لم تمنع من تدريس الديانة المسيحية تاريخها ورجالها ومنحنياتها وتطورها في الغرب والعالم، والعديد من المعاهد الغربية تدرس الدين الإسلامي كأحد أكبر الأديان في العالم. ففي كتاب علم الديانات السويدي الذي يدرسه طلبة الثانويات في السويد يوجد فصل بكامله عن الإسلام ومدارسه ومناطق وجوده، وتمّ عرض الإسلام في هذا الكتاب بطريقة موضوعية لا تشويه فيها، ومعظم المعلومات مستقاة من مراجع اسلاميّة معتبرة.

وتنتشر معاهد التعليم الديني في الغرب في مجمل الخارطة الغربية، وهي قسمان: فبعض هذه المدارس الإسلامية تجمع بين تدريس الإسلام واللغة العربية بالإضافة إلى المناهج التعليمية المقررّة في هذه الدولة الغربية أو تلك وهذه المدارس معترف بها وتعامل كما تعامل المدارس العامة الموجودة في هذه الدولة الغربية أو تلك، ويستطيع الطالب العربي والمسلم أن ينتقل منها وإلى أي مدرسة أخرى والعكس صحيح.

وتلجأ الكثير من المدارس الإسلاميّة في الغرب إلى الجمع بين التعليم الإسلامي وتعليم المواد المقررّة في الغرب ليتسنى للطالب المسلم أن يلتحق بأي جامعة غربية وتكون لديه قاعدة إسلامية صحيحة.

وتلجأ معظم المدارس الإسلامية في الغرب إلى تعليم القرآن الكريم واللغة العربيّة وهما مقومّا شخصية المسلم في الغرب. وغير هذه المدارس نشأت مدارس تقتصر على تعليم القرآن الكريم واللغة العربية، ويتوجّه إليها الطلبة العرب والمسلمون في أوقات الفراغ أو في أيّام العطلة لتحصيل اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم. وهذان النمطان هما السائدان في معظم البلاد العربية والإسلامية.

وقد بدأ في المدّة الأخيرة التفكير في إقامة جامعات دينية وكليّات إسلاميّة خاصة باعتبار أنّ القانون الغربي بشكل عام لا يمانع في ذلك، وانطلقت تجارب من هذا القبيل في بريطانيا وأمريكا. وقد حصل العديد من العاملين في الحقل التربوي من المسلمين على رخص لتأسيس جامعات إسلامية تتولى تدريس الإسلام وبقية العلوم في الغرب.

ولم تؤدِ أحداث الحادي عشر التي عصفت بأمريكا إلى وضع حدّ لظاهرة التعليم الديني والمدارس الإسلامية في كثير من الدول الغربية، حيث ما زالت هذه المدارس تواصل عملها كما كانت، دون تدخّل السلطات البتة في عملها.

فالنرويج والدانمارك وفنلندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها ما زالت المدارس الإسلامية تؤدّي عملها دون تغيير استراتيجي ملحوظ. والسويد مثلا بقيت بمنأى عن هذه الزوابع عدا بعض التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنيّة مع بعض الأشخاص الذين كانوا يجمعون أموالا لتنظيم القاعدة، وتجميد حساب جمعيّة البركة الصوماليّة بأمر من الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة علاقة هذه الجمعية الماليّة التي تقوم بتحويل مبالغ مالية من المهاجرين الصوماليين في السويد وإلى ذويهم في الصومال. ولم تسجّل اعتقالات على الاطلاق في الوسط الإسلامي كما حدث في أمريكا. وقد استمرّت المدارس العربية والإسلاميّة في أداء عملها بكل حريّة وبدون تدخّل من السلطات السويدية وكأنّ شيئا لم يحدث، وتجدر الإشارة إلى أنّ المدارس العربيّة والإسلاميّة منتشرة في كل المحافظات السويدية الكبيرة ستوكهولم ومالمو وأوبسالا وغوتنبورغ وغيرها من المحافظات وفي أحيان كثيرة يصادف المرء أكثر من مدرسة عربية وإسلاميّة في المنطقة الواحدة، فالعاصمة السويدية ستكهولم يوجد فيها مدرستان إسلاميّتان إحداهما سنيّة والثانيّة شيعيّة، وفي مدينة أوبسالا يوجد مدرستان إسلاميّتان تحمل الأولى اسم مدرسة الإيمان والثانيّة مدرسة منار الهدى وهي تابعة لجمعية المشاريع الخيرية اللبنانيّة، وفي مدينة مالمو ثاني مدينة بعد ستكهولم يوجد أزيد من أربع مدارس عربية وإسلاميّة، ويتولى التدريس في هذه المدارس الإسلاميّة والعربية عشرات المدرسين العرب من مختلف الجنسيّات العربية، وتعتبر مادة القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي والأحكام الفقهية من المواد الضروريّة في مناهج هذه المدارس بالإضافة إلى المنهج السويدي من قبيل اللغة السويدية والرياضيات وغيرها من المواد باعتبارها ضروريّة للطالب العربي والمسلم على اعتبار أنّ المدارس العربية والإسلاميّة تضطلع بتدريس المرحلة الابتدائية والمتوسطة ولم تتأسسّ لحدّ الآن ثانوية عربية وإسلامية ويضطّر الطالب العربي والمسلم أن ينتقل تلقائيًّا إلى الثانوية السويدية بعد إتمام دراسته في المدارس العربية والإسلامية، وبعض المدارس العربية والإسلامية تفتقد إلى المرحلة المتوسطة فيضطّر الطالب لأن يغادرها إلى مدرسة سويدية فيها صفوف متوسطة. وهناك مساعٍ في هذا الصدد كما هناك مساعٍ لفتح كلية للدراسات الإسلاميّة.

وكل هذه المدارس العربيّة والإسلاميّة تتلقى دعما ماليًا كبيرًا من الحكومة السويدية ويصل هذا الدعم إلى ملايين الكرونات السويدية – ملايين الدولارات – تصرف على رواتب العاملين في هذه المدارس ويدفع منها إيجار المدارس وغير ذلك من المصاريف. وحسب معلومات أكيدة فإنّ هذه المساعدات لم تنقطع البتة بل قدمت المساعدات لهذه المدارس العربية والإسلاميّة في وقتها ودون تأخير، ورغم انتشار هذه المدارس فقد وافقت بلدية مالمو في جنوبي السويد على فتح مدرسة عربية أخرى لاستيعاب العدد الهائل من أبناء الجاليّة العربيّة. وقد صرحّ بعض مسؤولي هذه المدارس العربية والإسلاميّة أنّه لم يسجّل أي تدخّل من قبل الجهات المعنيّة بضرورة تغيير المنهج أو إلغاء الحجاب الذي تلتزم به أغلب التلميذات، وتجدر الإشارة إلى أنّ تلاميذا من مختلف الجنسيات العربية والإسلامية يزاولون دراستهم في هذه المدارس – لبنان، فلسطين، العراق، تونس، الجزائر، إيران، كوسوفا، البوسنة.. وما إلى ذلك -.

 

ماهيّة التعليم الديني في الغرب:

 

يركّز التعليم الديني في الغرب على محورين أساسيين وهما تعليم القرآن الكريم واللغة العربية، وفي كثير من الأحيان يلجأ الأساتذة إلى تحفيظ التلاميذ السور القصيرة من جزء عمّ كمدخل لتعويد التلاميذ على اللغة العربية التي توليها المدارس الدينية في الغرب اهتمامًا خاصًا وكبيرًا، باعتبار أنّ أكثر من ستين بالمائة من أبناء المسلمين ولدوا في الغرب واحتكاكهم باللغة العربية ضئيل للغاية، وكثير منهم نسي اللغة العربية، ويعتبر ذووهم أنّ المدخل الصحيح لفهم القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع والثقافة الإسلامية هو معرفة اللغة العربية، ومن هنا نتج الحرص على إقامة مدارس إسلامية ودينية في الغرب تضطلع بمهمة الحفاظ على شخصية الطفل المسلم.

والإشكال الذي لاحظه بعض البيداغوجيين لدى قيامهم بدراسات حول المدرسة الإسلامية التي تجمع بين المنهج الإسلامي والمنهج الغربي في التعليم هو أنّ الكثير من التلاميذ ونسبة كبيرة منهم أصبحوا ضعفاء في ثقافتهم العربية والإسلامية وفي الثقافة الغربية، وصعب عليهم الجمع بين منهجين قد لا يربط بينهما شيء. ففي السويد مثلا لوحظ أنّ التلميذ الذي ينتقل من مدرسة عربية وإسلامية إلى مدرسة سويدية يكون ضعيفا جدا في مستواه، ويحتاج إلى مساعدة إضافية ليدرك أقرانه في الصف. وجزء من العيب يعود إلى كون معظم الذين أقدموا على تأسيس مدارس عربية وإسلامية في الغرب ليسوا متخصصين في مجال التربية، بل إنّ البعض لجأ إلى إقامة مثل هذه المدارس للحصول على المساعدات الكبيرة التي تقدمها البلديات لأصحاب المشاريع التربوية، بإعتبار أنّ جزءًا كبيرًا من الميزانيات في الغرب يذهب إلى ثلاثة أمور وهي: الصحة والتعليم والبيئة.

وتبقى تجارب المدارس الإسلامية في حاجة إلى إعادة تقييم وتقويم لتكون النتائج مثمرة وإيجابيّة.